اولأ – العـاطفـة
1- مفهوم العاطفة ووظائفها:
إذا كان الهيجان انفعالاً سريعاً، فإنّ العاطفة انفعال هادىء، لأنّها تتّسم بالحالة الداخلية للشخص، قد تبقى مكتومة أحياناً وقد تُسقَط بمظاهر خارجية أحياناً أخرى. ولذلك شكّلت العاطفة مصطلحاً حاول الفلاسفة وعلماء النفس أن يحدّدوا معناه الدقيق، بطبيعته ودلالاته. فظهرت تعريفات عدّة تناولت الشعور والنفس والعقل.
فقد عرّفت العاطفة من حيث طبيعتها العامة بأنّها: نزعة انفعالية يتّجه الفرد من خلالها نحو موضوع معيّن، يشدّه أو يجذبه بعوامل متعدّدة ولها صفة الاتجاه الانفعالي الدائم..
واستناداً إلى ذلك، تقسّم العواطف إلى عواطف مادية وعواطف معنوية؛ فالعواطف المادية تتمركز حول الأمور المحسوسة، كالأشخاص والأماكن والأشياء التي ينجذب إليها الإنسان ويشعر بالارتياح تجاهها.. أمّا العواطف المعنوية، فتتركّز على المشاعر الداخلية للإنسان وتريح وجدانه، أو (ضميره) إذا صحّ التعبير، ومنها الحبّ والفضيلة، والشرف والصدق، والإيثار والصداقة.. وتتّسع عواطف الإنسان أو تقلّ، تبعاً لخبرته الذاتية، وغنى تجاربه الحياتية / الاجتماعية.
أمّا من حيث ارتباطها بالعقل، فقد عرّفت العاطفة بأنّها: كلّ اضطراب أو نهج يحدث في العقل أو الشعور، أو أية حالة حادة للاضطراب العقلي. وعرّفت من حيث ارتباطها بالسلوك بأنّها: انفعال هادىء يعشعش في النفس ببطء، ولا ينتهي حتى يستحوذ عليها.. ويظلّ هذا شأنه حتى يصبح الموجّه الأساسي في السلوك كعاطفة الحبّ.
وبما أنّ العاطفة انتظام لعدّة ميول انفعالية حول موضوع ما (شخص، فكرة، شيء)، فهي تتميّز بالاستمرارية على عكس الانفعال الذي يمثّل حالة عابرة تغلب عليها الصبغة الوجدانية..ولذلك تعمل العاطفة على تعديل السلوك وتوجيه الدوافع الفطرية والمكتسبة، بما يتّفق والقيم التي ترضاها البيئة الاجتماعية المحيطة، وتكسب الإنسان القدرة على الانتظام والثبات في سلوكه، يمكّنان من التنبّؤ بمواقفه وتصرّفاته تجاه الموضوعات الأكثر أهمية في حياته، كالأسرة والوطن والأصدقاء..!
وممّا يجمع بين التعريفات السابقة، أنّ العاطفة حالة انفعالية تتميّز بشعور معيّن نحو موضوع معيّن، وتتّصف بالاستمرار
واستناداً إلى ما تقدّم عن مفهوم العاطفة وأبعادها، يمكن إجمال وظائفها بما يلي:
1/1- التعاون لتحقيق أهداف معيّنة: تعدّ العواطف من العوامل الهامة التي تساعد الأشخاص الذين يشتركون في عمليات (أعمال) تعاونية، في إنجاز هذه الأعمال بالشكل الأفضل، حيث يسهم كلّ منهم بنصيب في تحقيقها؛ ولولا هذه التآزر فيما بينهم، وتوجيه عواطفهم في تيار واحد مشترك، لما كان لهم أن يتمكّنوا من تحقيق تعاون بنّاء فيما بينهم، لبلوغ الأهداف التي يصبون إليها.
1/2- تفعيل النشاط الثقافي: تقوم العاطفة بدور فاعل في مجال النشاط الثقافي؛ وسواء كان نشاطاً عقلياً أم أدائياً أم غير ذلك من أنشطة ثقافية، إنّما يكون مقروناً بالعاطفة. ولولا تبلور عواطفنا حول الموضوعات الثقافية، لما كان بمقدورنا – أية حال من الأحوال- أن نستوعب أي قدر من الثقافة. وبذلك يكون للعاطفة فضل فيما نكتسبه من ألوان الثقافة، وفيما يتسنّى لنا أن نبدعه فيها.
ولولا تعلّق عواطف المبدعين بالميادين الثقافية التي يشتغلون بها ويشاركون في تقديمها، لما كان لهم أن بسهموا بأي قدر في المسيرة الثقافية.
1/3- الدفاع البيولوجي: وهو الدفاع الذي يبدأ المرء بممارسته عندما يحسّ بخطر محدق به، أو مهدّد حياته. وهنا يكون للعاطفة وظيفة طبيعية تتمثّل في الدفاع البيولوجي، حيث يبدأ هذا الدفاع بظهور عاطفة الخوف، تتلوها عاطفة الغضب، فينتهي المرء بدفع الخطر عن نفسه، سواء كان الخطر صادراً عن إنسان أو حيوان أو جماد.. والأمر المهمّ هنا هو أنّ الإنسان عندما يحسّ بالخطر الوشيك، فإنّه يتسلّح بالعاطفة ويصوغها وفق الصيغة المناسبة للموقف الذي يواجهه.
وبناء على هذه الوظائف، نجد أنّ العاطفة كثيراً ما تطبع سلوك الإنسان بنوع ما من الثبات والاستقرار، حتى ليمكننا أن نتوقّع سلوك شخص ما في موقف معيّن، إذا ما عرفنا طبيعته الانفعالية عامة، ونوع عاطفته خاصة، والتي يكون للبيئة الاجتماعية / التربوية دور كبير في تحديدها، ومدى شدّتها أو ضعفها.
ولا بدّ أخيراً من الإشارة إلى أن ثمّة ارتباطاً بين العاطفة والعقل؛ فإذا كان منطق العاطفة يهدف إلى تحقيق أكبر قدر من موضوع العاطفة، ولا سيّما المنح والعطاء من دون مقابل، فإنّ منطق العقل يقوم على التفكير والموازنة بين الأهداف والمصالح. وهذا لا يشير إلى تناقض فيما بينهما، بل إلى نوع من التوازن في شخصيّة الإنسان؛ فإذا كانت العاطفة محرّكاً للسلوك، والعقل موجه له، فإنّ من الحكمة أن يحلّ التوازن بينهما لينعم الإنسان بطبيعة عقلية واعية، وبحياة عاطفية نبيلة، أي بحياة عاطفية معقلنة..
أقراء ايضأ :التربية الانفعالية / الوجدانية في الأسرة
2- تكوّن العاطفة ونموّها:
تشكّل العاطفة أحد الجانبين الأساسيين اللذين يكونان البنية الانفعالية / الوجدانية للشخصية الإنسانية، فهي إذن تنمو وتكتسب من خلال المواقف الاجتماعية/ التربوية التي يتعرّض لها الفرد بوجه عام، والمواقف الوجدانية بشكل خاص. فإذا أخذنا عاطفة الحبّ – على سبيل المثال – باعتبارها تمثّل الجانب الأكبر في مجال العاطفة، نجد أنّها لا تتمّ دفعة واحدة، وإنّما تتمّ بالتدريج ووفق الإيقاع الذي يفرضه الموقف لتكوين عاطفة الحبّ.
فقد يتقابل شخصان للمرّة الأولى، ولا يكون بينهما أي اتجاه مشترك، ولكن تكرار اللقاء والاحتكاك المباشر بينهما، وفي ظروف مختلفة تتيح لكلّ منهما التعرّف إلى الآخر بصورة أوضح وأعمق، قد ينتج مجموعة من الخبرات السارة، وبذلك تبدأ بذور العاطفة في النمو لتتحوّل إلى إعجاب فاحترام، ومن ثمّ قد تصل العاطفة إلى الصداقة المتبادلة. وقد ترتقي الصداقة بين الجنسين لتصل إلى مرتبة الحبّ الذي يمثّل الشعور العاطفي الصادق بين الطرفين.
وهكذا نجد أنّ العواطف تعمل على تنظيم النشاط الانفعالي للشخص تجاه موضوع معيّن، وبتأثير عوامل كثيرة أهمّها البيئة الاجتماعية / التربوية، والتعلّم والاكتساب. ويمكن أن تكون العواطف حول موضوعات عامة كحبّ بعض الأشخاص للأطفال بصورة عامة، أو عاطفة نحو أمور مجرّدة ككره الغشّ والخداع والحقد، أو حبّ الواجب والوطن والأهل..وهذا كلّه يرتبط بالمثيرات والمواقف التي ينتج عنها الكثير من العواطف الإيجابية والسلبية، وتشكّل ثنائية القبول والرفض عند الشخص.
واستناداً إلى ما تقدّم، فإنّ نمو العواطف يمرّ بالمراحل التالية:
2/1- مرحلة الطفولة:
تكون عواطف الطفل في مرحلة طفولته المبكرة، ذاتية الموضوع، أي تدور حول ذات الطفل وحاجاته، ثمّ تأخذ هذه العواطف الذاتية في النمو باتجاه الأشخاص والأشياء؛ فيبدأ الطفل بحبّ أمّه وأبيه والمحيطين به من أفراد الأسرة وغيرهم، حيث تنمو عواطفه تجاههم من خلال الخبرات الانفعالية المشتركة بينه وبينهم، فيكون للذّته وارتياحه معهم، ومداعبتهم له وتأمينهم حاجاته، دور هام في خروجه من دائرة الذات، وانتقاله إلى حبّهم.. كما يكون –في المقابل- للألم والانزعاج والمضايقات والحرمان، دور في توليد مشاعر النقص والكره وعدم الثقة بالآخرين، وغير ذلك من العواطف السلبية. وهذه العواطف الإيجابية والسلبية، تنمومع الطفل بفعل البيئة الأسرية، ومن ثمّ البيئة الاجتماعية، وقد تبقى إلى إلى نهاية المراحل الطفولية.
يقول / أنطون مكارينكو / المربّي الروسي الشهير: إنّ حياة الأطفال أكثر غنىً من حياة الكبار من حيث العاطفة، والقلق، وعمق الانطباعات؛ ومن حيث الطهارة وجمال التكيّف الإفرادي، ولكنّ الهزّات التي تواجههم في هذه الحياة لا تعتبر كبيرة فقط وإنّما خطيرة أيضاً..وهذه الحياة بأفراحها وأتراحها قادرة على أن تهزّ الشخصيّة بعمق، وعلى أن تخلق شخصيات ذات طباع عالية وجيّدة، أو أناس ذوي طبع منعزل وشرس ومثير للدهشة. فالطفل يحتاج إلى الحبّ والرعاية بشكل دائم، ولكن الحبّ الذي يلقاه وهو صغير يختلف عن الحبّ الذي يلقاه وهو كبير.
2/2-في مرحلة المراهقة:
يتميّز الوضع العاطفي للمراهق بغنى محتواه إذا ما قورن بما كان عليه في الطفولة، حيث تتعدّد فيه العواطف والميول وتتنوّع، وتبحث عن الارتواء (الإشباع) بأساليب أكثر ذكاء وفاعلية. فقد يقع المراهق – على سبيل المثال- في الحبّ الذي يكون ناتجاً عن عدد من الدوافع والانفعالات؛ فهو يحمل الانشراح والاكتئاب، أوالاسترخاء والغضب، أو البهجة والخوف، أو السعادة والعذاب.. وغير ذلك من المتناقضات التي يعيشها المراهق بسبب حساسية المرحلة التي يجتازها. ولكن مع نهاية هذه المرحلة يبلغ المراهق النضج الانفعالي، الذي يتجلّى في عدد من المظاهر، من أهمها: القدرة على المشاركة الانفعالية، والقدرة على الأخذ والعطاء، وزيادة الواقعية في فهم الآخرين، إضافة إلى زيادة الميل إلى الرأفة والرحمة.
2/3-مرحلة ما بعد المراهقة:
تبدأ العواطف في نهاية مرحلة المراهقة بالثبات والاستقرار؛ فقد دلّت الدراسات على أنّ الميول العاطفية عند الطفل، تبدأ في الثبات منذ السنة الحادية عشرة، لتبلغ حدّاً كبيراً ما بين السنوات (15 – 23)، وبنسبة تصل إلى (75%)، وقد لوحظ أنّ ثلث التغيّرات العاطفية يحدث فيما بين (15-17) سنة، وأنّ الثلث الآخر يحدث فيما بين (17-19) سنة، أمّا الثلث الأخير من هذه التغيرات العاطفية، فيحدث بعد ذلك، حيث تنضج العاطفة وتكتمل في مرحلة الشباب.
وقد تتداخل هذه المراحل تبعاً لتأثيرات البيئة الاجتماعية / التربوية، ومدى استعداد الطفل / المراهق، الجسمي والنفسي، للتفاعل معها واكتساب العواطف المناسبة من خلال هذا التفاعل، حيث يكون للوالدين والمربين دور بارز في هذا المجال.
والخلاصة، تعدّ العواطف وحدات نفسية يمتزج فيها الإدراك بالوجدان، وتتميّز بالثبات والاستقرار، حيث تقوم بدور مؤثّر في تعديل السلوك وفق المعايير التي تحدّدها البيئة الاجتماعية / الثقافية التي ينشأ فيها الفرد ويتربّى..ولذلك تعدّ العواطف من العوامل الأساسية في تكوين الشخصيّة وتكاملها، وهي تنمو بالتدريج متأثّرة بعوامل داخلية، ترتبط بطبيعة الشخص وتكوينه الجسدي والنفسي والعقلي، وبعوامل خارجية تتعلّق بالبيئة المحيطة بالكائن البشري وبالتنشئة الاجتماعية التي تلقّاها في مراحل نموّه المختلفة.
أقراء ايضأ: طبيعة الانفعال ونموّه وأنواعه
3- العوامل المؤثّرة في تكوين العاطفة:
بما أنّ العاطفة حالة انفعالية مكتسبة، فإنّ ثمّة عوامل (داخلية وخارجية) تؤثّر في اكتساب العواطف وتنميتها.. ومن أبرز هذه العوامل:
3/1-الوسط الاجتماعي:
يشكّل الوسط الأسري / الاجتماعي، المجال الحيوي الذي يؤثّر في نشأة العواطف نحو بعض الأشخاص، كالأب والأم والمعلّم والزعيم وغيرهم ممّن يعجب بهم الطفل / الناشء، ويتّخذهم قدوة له..كما يكون للمعايير السائدة في الوسط الاجتماعي والمثل، والحاجات الاجتماعية، دور في توجيه عواطف الأفراد وتركيزها على بعض الموضوعات (الذاتية والموضوعية) دون بعضها الآخر.
يبدأ التأثير الاجتماعي في تنمية عواطف الإنسان منذ مرحلة الطفولة الأولى، حيث الحياة المشتركة في الأسرة، ويستمرّ في المراحل التالية، في المدرسة وخارجها في المجتمع الكبير، من خلال ما يقدّم الوسط الاجتماعي من المثيرات المتنوّعة، ويؤكّد على موضوعات اجتماعية دون أخرى، من خلال عمليتي (الكفّ والتعزيز).
3/2-الخبرات السابقة /المكتسبة:
تؤكّد معظم الدراسات النفسية والتربوية، أنّ ثمّة علاقة وثيقة بين ما يعانيه الفرد في طفولته، وما يتعرّض له من مثيرات ومحرّضات (إيجابية وسلبية)، وبين العواطف التي تتكوّن لديه ويشعر بها في مراهقته ورشده، والتي قد تأخذ طابع التعويض أو الاستمرار، أو الإسقاط أو التصعيد، وذلك تبعاً لنوع العاطفة والعوامل التي أسهمت في تكوينها وتنميتها.
ويشار هنا إلى أنّ المرء طالما يحسّ بالأمن والاطمئنان، ولا يوجد أي شيء يهدّد كيانه، فإنّه يكون هادىء الوجدان فلا تثور عاطفته إلى درجة الانفعال الحاد. ولكن إذا ما شعر بخطر ما أو أدرك أنّ ثمّة أمراً سينال من شخصه أو من أحبائه، فإنّ عاطفته تهتاج وتثور بما يتناسب والمثير الطارىء وهذا يؤكّد أنّ عواطف الإنسان وميوله، تتكوّن بالتدريج وعبر مراحل نموّه جميعها، حيث يكون للتربية دور فاعل في هذا المجال.
سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله
ردحذف