الكائن البشري (الطفل) مخلوقاً له حقوق خاصة، على أسرته ومجتمعه. فهو كائن بيولوجي في المراحل الأولى من تشكّل شخصيّته، التي تحتاج إلى الرعاية الطويلة والعناية المتعدّدة الجوانب والأغراض، ريثما تكتمل هذه الشخصيّة بتكوين الطفل / الفرد، من النواحي الجسدية والنفسيّة والأخلاقية والعقلية، ثمّ الاجتماعية التي تعبّر عن الجوهر الحقيقي للإنسان.
فالإنسان / الفرد، بهذا المعنى، هو نتاج للمحيط الأسري أولاً والمحيط الاجتماعي ثانياً، في عملية تربوية متكاملة على حدّ بعيد. فعلى الرغم ممّا يحمله الكائن البشري من استعدادات وخصائص وراثية، فإنّ للتنشئة الأسرية / الاجتماعية، بما فيها من أساليب الرعاية والتوجيه والتهذيب، الأثر الكبير في تكوين شخصيّة الفرد وسلوكاته واتجاهاته.
ومن هنا يبرز دور الأسرة الأساسي في عملية التربية والتنشئة الاجتماعية السليمة؛ فإذا كانت الأسرة – ممثّلة بالوالدين- تقوم بأدوارها التربوية السليمة، نما الطفل ونشأ بشخصيّة سوية سليمة، بحيث يكون إنساناً واعياً ومواطناً صالحاً.. وإذا سادت في الأسرة علاقات تسلّطية / قمعية، تقوم على العنف والقسوة، والقهر النفسي والجسدي، فلا شكّ أنّ ذلك سينعكس سلباً على حياة الأطفال، الحالية والمستقبلية.
إنّ الأسرة، على الرغم ممّا حدث مؤخّراً في بنيتها ووظائفها، تبقى بالنسبة للأبناء، صمام الأمان، الصمّام الذي يلغي أثر تفاعل العوامل السلبية التي يتعرّض لها، والتي قد تتفجّر بشكل شظايا حادة مؤلمة تؤثّر على الأسرة والأبناء، وبالتالي على المجتمع بصورة عامة.
1- العنف الأسري ضد الأطفال في التاريخ
يعرّف العنف (Violence)من الناحية اللغوية، بأنّه: " الخرق بالأمر وقلّة الرفق به، وهو ضد الرفق..ويقال: هو عنيف إذا لم يكن رفيقاً في أمره؛ وأعنف الأمر: أخذه بعنف.
ويعرّف العنف من الوجهة العملية، بأنّه: " فعل يقوم به شخص – بقصد أو من غير قصد – لإحداث ألم جسد أو نفسي عند شخص ما، أو إصابة معيّنة تضرّ بشخص آخر. كما يعرّف العنف من الناحية الظاهراتية، بأنّه " محاولة استرداد شيء ما فقد من صاحبه، باستخدام القوّة البدنية والانفعالية
واستناداً إلى التعريفات السابقة، نجد أنّ العنف يرتبط بالعدوان والإيذاء؛ فالعنف يرتبط بالعدوانلأنّه نشاط تخريبي يتضمّن عنفاً بطبيعته.. وقد لا يؤّدي العنف العدواني بالضرورة إلى إحداث خسائر أو أذيات، ولكنّه في كلّ الأحوال، يرتبط- إلى حدّ بعيد- بتعمّد الأذى والتخريب. أمّا الإيذاء الذي يعرّفه فهو: الممارسة المتعمّدة (المقصودة) التي يقوم بها أحد الوالدين أو أحد أولياء الأمور ضد الطفل، بهدف إيقاع الأذى به والضرر إلى حدّ تدميره وقتله.
ويتّخذ العنف الإيذائي(Abusive) أشكالاً متعدّدة مثل: الإيذاء الجسدي والإيذاء النفسي، والإيذاء الجنسي والاجتماعي.. وقد يتعرّض من يقع عليه الأذى إلى شكل أو أكثر من هذه الأشكال، في وقت معاً.
وعلى الرغم من هذه التعريفات، فليس ثمّة إجماع على تعريف الإيذاء والعنف، ولذلك شاع استخدام مصطلح الإساءة بمعنى الإيذاء (Abuse) في دراسات الأسرة للتعبير عن الإساءة التي يتعرّض لها الأطفال من آبائهم أو أمّهاتهم، أو من أولي الأمر، أو الإساءة التي تتعرّض لها المرأة، ولا سيّما الإساءة للزوجة التي تتعرّض للضرب المبرح من زوجها. ,
إنّ دراسة تاريخ المجتمعات الإنسانية ومكانة الأطفال فيها، تؤكّد إلى حدّ بعيد، أنّ الأطفال كانوا في معظم الأحيان مهمّشين، لا ينالون الاهتمام اللازم، ولا يعطون أي دور في المجتمع. فقد كان الأطفال في غالبية المجتمعات – إن لم يكن كلّها – وعلى امتداد تاريخها الطويل، يعاملون بقسوة وبلا رحمة أو كرامة إنسانية، حيث يضربون بشدّة أو يقتلون، أو يُعتدى عليهم جنسياً، أو يُتخلّى عنهم..وكلّما أمعنا في التاريخ إلى الوراء، نجد أنّ معاملة الأطفال تزداد خشونة وقسوة في كثبر من المجتمعات.
ولذلك كان التركيز دائماً من قبل الباحثين، على المصطلحات التي تعبّر عن العنف بأشكاله المختلفة؛ فبعضهم استخدم مصطلح الاعتداء، والأغلبية استخدمت مصطلح العنف بالتبادل مع مصطلح الإيذاء، في كثير من الأحيان.. وقد استخدمت هذه المصطلحات أحياناً، بوصفها
1/1- قتل الأطفال:
ففي القديم، كانت السلطات الأبوية الواسعة والمطلقة، في بعض المجتمعات، تخوّل الأب حقّ التصرّف في حياة أطفاله وموتهم، كما كان عند الإغريق والرومان، الذين كانوا يجيزون قتل ذريتهم الضعيفة والمشوّهة. وفي المقابل، مارست بعض المجتمعات القديمة، عادة تقديم الأطفال كقرابين للآلهة، إمّا لتحسين النسل أو لتفادي الشرور، أو لتأمين ثروة للجماعة أكبر وأفضل؛ فالصينيون والهنود القدامى، كانوا يلقون الأطفال في الأنهار تقدمة لآلهة المياه، ضماناً لجودة المحاصيل.. أمّا المصريون القدماء والفينيقيون والموؤابيون، فكانوا يقدّمون أبناءهم قرابين للآلهة الغاضبة، لنيل رضاها ورحمتها.
وبقيت هذه العادات سائدة عند كثير من الشعوب حتى القرن الرابع الميلادي، حيث قامت الكنيسة المسيحية بدور رائد في تغيير وجهة النظر الأخلاقية نحو قتل الأطفال؛ وعارضت بشدّة الفكرة القديمة القائلة بأنّ الأطفال تنقصهم الروح الفاضلة عند الولادة، ولذلك لا يحرّم قتلهم. وساد الاعتقاد المسيحي بأن قتل الأطفال عمل تكتنفه الخطيئة، لأنّه يحرمهم من الاعتماد بالمسيح، كما يحرمهم من فرصة الخلاص الأبدي.
وكان الإمبراطور الروماني (قسطنطين) أوّل من أعلن عام (315 م) المرسوم الأول ضد قتل الأطفال أو بيعهم للاستعباد، أي كعبيد. وأدرك أنّ الفقر هو العامل الأساسي الذي يدفع الآباء إلى التخلّي عن أطفالهم، ولذلك فوّض الحكّام بتقديم مساعدات كافية للآباء الفقراء، تساعدهم وتتيح لهم تنشئة أطفالهم على نحو مناسب. وجاءت مجموعة قوانين الإمبراطور (تيودوسيوس)عام 438 ميلادية، لتكمل التأثير الكبير الذي قامت به الكنيسة في الحدّ من ظاهرة قتل الأطفال، هذا القتل الذي اعتبر عملاً إجرامياً يتنافى مع المبادىء الأخلاقية والإنسانية.
ولكن، على الرغم من هذه القوانين الصارمة، فقد استمرّ قتل الأطفال في بعض المجتمعات طوال العصور الوسطى، وحتى ما بين القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، إذ لم تعمل الموانع القانونية على وقف ظاهرة قتل الأطفال، بل بدّلت من طرق ممارستها.
1/2-التخلّي عن الأطفال:
كان التخلّي عن الطفل من خلال تركه في العراء، يؤدّي غالباً إلى موته، ولكنّه في بعض الحالات، كان يهيّء له فرصة البقاء على قيد الحياة، إذا ما توافرت له ظروف إنقاذية. وقد أشار / جوناس هانوي / عام 1766، إلى أنّ التخلّي عن طفل أقلّ صعوبة من قتله، بالنسبة للطبيعة الإنسانية ودوافع حفظ الذات.
ففي العصور الوسطى، تخلّى آلاف من الآباء المعوزين عن أطفالهم، وتنازلوا عنهم؛ فكان بعض الأطفال يباع إلى الرقّ والبغاء، وكان بعضهم يشوّه عمداً لاستثارة الشفقة، وتسهيل عملية التسوّل الفاعلة. وهذا ما دفع الكاهن / تاديوس / رئيس أساقفة ميلانو (إيطاليا) إلى إنشاء أول بيت لـ(اللقطاء) عام 787 ميلادية، أملاً في إنقاذ حياة بعض الأطفال الذين تخلّى عنهم أهلوهم.
وأخذت حركة بناء الملاجىء للأطفال، تأخذ في الظهور المتسارع، حيث أسّس الملجأ (الخيري للأبرياء) في فلورنسا عام 1421، وأسّس ملجأ (اللقطاء) في لندن عام 1741، لمنع قتل الأطفال والتخلّي عنهم. أمّا في أمريكا فقد كان الأمر مختلفاً، إذ كانت تعاني، مع نهاية القرن التاسع عشر، من مأزق الأطفال المتخلّى عنهم والمهملين، حتى قدّر عدد الأطفال الفقراء الذين لا مأوى لهم في مدينة نيويورك وحدها، بحوالي (مائة ألف طفل) يهيمون في الشوارع.
1/3- الإرضاع الغيري:
شاعت هذه الممارسة على امتداد العصور التاريخيّة، وهي نوع من أنواع تنازل الأم عن الطفل، وقبول إرضاعه من نساء أخريات لقاء أجور معيّنة، على الرغم من التحذيرات من المخاطر الطبيّة والنفسيّة التي يمكن أن تلحق بالأمهات والأطفال معاً، جرّاء ذلك.
وقد أشار / كيسن مايفيد / بأنّ المسألة الثابتة في تاريخ الطفولة، هي نفور الكثير من الأمهات من إرضاع أطفالهنّ، وحتى عندما جاء القرن الثامن عشر وبدأت المواقف تتغيّر تجاه الأطفال، كان الإرضاع الطبيعي يعدّ تصرّفاً سخيفاً، وأدنى من مستوى الطبقات الوسطى. ففي باريس، على سبيل المثال، كان حوالي (17000) طفل في مراضع ريفيّة، عام 1780، من أصل (21000) طفل أوكلوا إلى الإرضاع الغيري. ولم يحظ بالإرضاع الطبيعي من الأمهات، سوى (7000) طفل، بينما الأطفال الآخرون في دور الحضانة، أو في عهدة مرضعات في البيوت.
وقد علّلت ظاهرة الإرضاع الغيري بأسباب متعدّدة، منها: عدم قدرة الأم على إنتاج كمية كافية من الحليب اللازم لإرضاع الطفل، أو الاستياء من الطفل وهو يوقظها في أثناء النوم، أو تعكير حياتها الاجتماعية، أو خوفها من أن يفسد الإرضاع شكل ثدييها وجاذبيتها الجسميّة.
وعزّز الرجال / الأزواج هذه العادة، لأنّهم كانوا أيضاً يظنّون أنّ الإرضاع سوف ينافسهم على اهتمام زوجاتهم بهم. ولذلك ظلّ الإرضاع الغيري منتشراً حتى القرن الثامن عشر، وذلك بسبب رغبة الآباء / الأزواج في المحافظة على العلاقات الجنسيّة المتبادلة مع زوجاتهم، على الرغم من أنّ المرضعات كنّ أكثر اهتماماً بأجورهن أكثر من الاهتمام بالإرضاع. وكان الاتهام بالوحشية في معاملة الأطفال وإهمالهم، شائعاً على نطاق واسع.. كما كانت معدّلات وفيّات أطفال المراضع، تقدّر بضعفها عند الأطفال الذين يرضعون من أمّهاتهم.
سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله
ردحذف