الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى التي
يحتكّ بها الكائن البشري (الطفل)، وهي المكان الأوّل الذي تبدأ فيه معالم التنشئة
الاجتماعية لهذا الكائن، حيث توضع الملامح الأساسية لشخصيتّه الاجتماعية
المستقبلية.
وتبدو أهميّة التربية الأسرية في التربية الأخلاقية، في أنّ القيم والتقاليد والاتجاهات والعادات السائدة في المجتمع، تمرّ من خلال الوالدين، بعملية تنقية متّخذة طريقها إلى الأبناء بصورة مصفّاة وأكثر خصوصية. حيث يعتبر الوالدان بمنزلة مصفاة تقوم بتصفية (تنقية) القيم قبل عبورها إلى الطفل، كما أنّ الوالدين نماذج للقدوة أمام الأطفال، يقلدونها ويتمثّلون صفاتها ومواقفها.
فالأسرة تشكّل، بحسب تكوينها ووظائفها، الجماعة الاجتماعية الأولى والهامة في حياة الفرد، حيث تتولّى غرس قيم الثقافة العامة للمجتمع، وفي الوقت نفسه تغرس القيم الخاصة التي تعتنقها، بكلّ ما تتضمّنه من أساليب الحياة والتفكير والعمل. ولكن الأسرة لا تنقل إلى الأبناء عناصر الثقافة كلّها، وكما هي، بل تقوم بعملية تقويميّة / قيميّة، أي عملية اختيار دقيق من هذه العناصر، ومن ثمّ تقوم بتفسيرها للأبناء على أسس القبول أو الرفض لكلّ منها. وبالتالي فإنّ الطفل يمتصّ ما يمتصّه من هذا الإرث الثقافي، بأعين الأسرة وهو يتعلّم منها ويكتسب.
وهذا يحتم
على الوالدين مسؤولية كبرى في التحلّي بالأخلاق الفاضلة، ليمكّنوا من تأديب
أبنائهم على فعل الخير، والتخلّق بمبادىء
الأخلاق الحميدة.. مع الأخذ في الحسبان أنّ الأسرة ليست معزولة عن المؤثّرات
الاجتماعية الأخرى، ولا سيّما جماعات الأقران ووسائل الإعلام المختلفة.
أولاً-أهميّة التربية الأسرية في النموّ الأخلاقي
يعدّ الدور الذي تقوم به الأسرة في التربية
الأخلاقية، دوراً أساسياً في تحديد مستقبل الشخصيّة الأخلاقية للفرد؛ فالطفل منذ
صغره يواجه بالحاجة الماسة لتعلّم القيم الأخلاقية في الأسرة، حيث تبدأ خبراته
اللغوية والاجتماعية، ويجد نفسه بالتدريج أمام تعابير القبول أو عدمه، أو المدح أو
الذمّ، تجاه ما يقوم به من تصرفات أو أعمال.
ويستند الدور الأسري في التربية الأخلاقية،
إلى مجموعة شروط مسبقة لا بدّ من توفيرها، وتتمثّل في مقدار الخبرات العائلية التي
تزوّد الطفل بالحبّ والاتجاهات الإيجابية التي تسهّل نموّه بوجه عام ونموّه
الأخلاقي بوجه خاص، وتبعده بالتالي عن أي انحراف اجتماعي أو أخلاقي.
تقوم التربية الأسرية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، بدور كبير ومؤثّر في دفع مراحل النمو الأخلاقي عند الأبناء، أو إحباطه، وذلك تبعاً لنمط تعامل الأهل مع الأبناء. فعندما تكون أساليب التربية التي يتبعها الوالدان مع الأبناء، قائمة على العطف والتفاهم والتشجيع، فإنّها تؤدّي إلى دفع النمو الأخلاقي قُدُماً، وعكس ذلك يؤدّي إلى اضطراب في النمو الأخلاقي..
فأسلوب التنشئة الاجتماعية الذي يتبعه
الوالدان مع الأبناء، يؤثّر بوجه عام في تبنّي الأبناء قيم معيّنة دون أخرى؛ فقد
أشارت دراسات إلى أنّ ثمّة ارتباطاً بين التوجّه القيمي للأبناء، وتصوّرهم أو
إدراكهم لأنماط معاملة الوالدين؛ فالأبناء ذوو التوجّهات الآمرية، يدركون أنّ
الآباء أكثر مكافأة وأقلّ عقاباً، لذلك فهم يميلون إلى عمل ما هو صواب، في حين أنّ
الأبناء ذوي التوجّهات الناهية، يدركون أنّ الآباء أكثر عقاباً وأقلّ مكافأة، لذلك
يركّزون انتباههم على تجنّب السلوك الخاطىء.
فالوالدون هم المصدر الأساس للأخلاق التي
يكتسبها معظم الأبناء؛ وفي هذا الصدد، توصّلت الباحثة / ديانا بومرمند / من جامعة
كاليفورنيا، إلى أنّ الآباء الحازمين يسهلون عملية النو الأخلاقي عند أطفالهم،
أكثر من الآباء المتسامحين والمتسلّطين. فالنموذج الحازم يؤسّس قواعد أسرية منسجمة
وثابتة؛ فهو يشجّع على المناقشة الحرّة والمحادثة الصريحة، لتفسير هذه القواعد
وتعديلها. وفي المقابل، يتجنّب النموذج المتساهل القواعد بوجه عام، بينما يفرض النموذج المتسلّط بشكل غير نظامي
حسب أهوائه، منطلقاً من مبدأ: " لأنّني قلت ذلك ".
وعلى الرغم من أنّ النموذجين (المتساهل والمتسلّط) يبدوان متعاكسين، إلاّ أنّهما يميلان إلى إعطاء نماذج متشابهة من الأبناء، حيث تضعف عندهم الثقة بالنفس، ويعانون من نقص المسؤولية الاجتماعية.. ولذلك فإنّ أيّاً من هذين النموذجين لا يقدّم خبرات واقعية قادرة على التأثير في نمو هوية الأبناء الأخلاقية.
فقد بيّنت دراسة قام بها / ديفيد مكلاند
وزملاؤه / عام 1982 على عائلات أمريكية، أنّ هناك ترابطاً إيجابياً بين النضج الأخلاقي
والدفء الوالدي في التعامل مع الأبناء؛ ففي العائلات التي كان فيها الوالدون
عاطفيين ودافئين في تعاملهم مع أبنائهم، كان أبناء وبنات هذه العائلات متقدّمين في
نضجهم الأخلاقي، على الأولاد الذين كانوا في أعمارهم وسجّلوا انخفاضاً في نضجهم
الأخلاقي، كونهم يتعاملون مع آباء صارمين.. الأمر الذي يكشف عن تأثير الأساليب
التربوية الأسرية في التعامل مع الأبناء، من الناحية الأخلاقية، كما هي الحال في
الناحية الانفعالية.
ولذلك يعتبر الجوّ الأخلاقي في الأسرة من
العوامل الأساسية في التربية الأخلاقية، والتي تتضمّن مجموعة من القيم الأخلاقية
التي تؤمن بها الأسرة وتعمل على تربية أبنائها وفقها، وإكسابهم السلوكات المرتبطة
بها، والتي ينظر إليها المجتمع من خلال أحكام ومعايير، يسمّيها (أخلاقية)، ولا
سيّما الصدق والأمانة، والغيرية والتعاون، والمصلحة الجماعية وصون الحرمات.. وغيرها
من القيم التي تعزّز تماسك شخصيّة الفرد، وتصرّفاته تجاه الآخرين. فتكون مهمّة
الأسرة في التربية الأخلاقية، هي المحافظة على هذه القيم وغرسها في نفوس الأبناء،
وتنميتها في إطار الوحدة القيميّة الأخلاقية، باعتبار أنّ الأسرة تمثّل نموذجاً
متوسّطاً بين التجمّع وفق قوانين الطبيعة، والتجمّع وفق القواعد الاجتماعية،
ولأنّها بالتالي تجمع بين سمات كلّ منهما.
ويقول علماء النفس إنّ الأسس الأخلاقية
لشخصية الطفل توضع لبناتها الأولى في البيت، وتقبّله للموازين الأساسية والمؤثّرة
في بناء الأخلاق تنطلق من هذا المكان.. فما يشاهده الطفل في البيت يجعله جزءاً غير
قابل للتغيير في خُلقه وطباعه، ويرسّخه بداخله إلى ما لا نهاية. وبالتالي فإنّ
سلوك الطفل وأخلاقه وطباعه، ما هي إلاّ انعكاس كامل لسلوك الوالدين.
إنّ الاحترام المتبادل بين الطفل ومن يحيطون
به من الكبار، يؤثّر بشكل كبير في تنمية القيم الأخلاقية والسلوكات الاجتماعية
التي تتوافق مع هذه القيم؛ فعندما يرى الطفل / الناشىء أنّ الكبار يخضعون للقواعد
والمبادىء الأخلاقية بمستوى خضوعه لها، فإنّه يعي أنّ الواجب ليس قوّة عمياء – كما
قد يفهمّه من قبل – بل هو من طبيعته العامة، فيصبح الواجب عنده أمراً ينبع من
الداخل، لا أمراً مفروضاً من الخارج.. وتصبح القواعد الأخلاقية الخارجيّة، قواعد
داخلية مقبولة لديه. وهذا ما يمثّل جوهر التربية الأخلاقية. وبذلك يتبنّى الطفل / الفرد السلوك الأخلاقي الذي يبدو له أنّه يتوافق مع توقّعات
الآخرين، وينمو هذا السلوك السوي ويتطوّر من خلال التفاعل الإيجابي مع الآخرين.
فالأسرة وهي تغرس لدى الأبناء جملة من القيم والسلوكات
الأخلاقية، وتدرّبهم عليها، فهي إنّما تعمل في الوقت نفسه، على تعزيز مكانتها الاجتماعية
والتربوية. ولذلك فكلّما كان المستوى السلوكي الذي يصدر عنها أمام الأبناء، على
جانب كبير من الرقي الخُلُقي والخالي من المقوّمات الرديئة، كانت التنشئة
الاجتماعية / الأخلاقية على جانب عظيم من النقاء والفاعلية.
ثانياً-شروط التربية الأخلاقية في الأسرة
تقوم
الأسرة بدور كبير في تحديد مستقبل الشخصيّة الأخلاقية للإنسان، ولكي تستطيع القيام
بهذا الدور، لا بدّ من أن توفّر للطفل مجموعة من الشروط التي تسمّى (الشروط
المسبقة للتربية الأخلاقية) وتتمثّل في قدر من الخبرات العائلية التي تزوّده
بكميّة من الحبّ الوافر والاتجاهات الإيجابية التي تسهّل تقدّمه ونموّه، عن طريق
التربية الأخلاقية. وإذا لم تتوافر هذه الشروط، فقد ينشأ الطفل مغترباً عن مجتمعه،
ومهيّأً لتبنّي أي سلوك أو انحراف في أي اتجاه، أو الانتقال إلى أية ثقافة
والانسلاخ عن أصول العقيدة الاجتماعية / الأخلاقية.
ويمكن تحديد هذه الشروط بما يلي:
1- تحديد الذات أو الهوية:
إنّ تحديد الهوية ومعرفة الذات، أو الإجابة عن
سؤال: من أنا؟ لا يتمّ إلاّ في إطار اجتماعي، لأن الهوية - الذات لا تعرف
إلاّ من خلال العلاقات مع الآخرين. ولمّا كانت العلاقات الأولى التي ينجزها
الطفل، ترسم له هويته وملامح ذاته، وتكون
أساساً للتوازن أو عدم التوازن بينه وبين المجتمع في المستقبل، فلا بدّ أن تقوم
هذه العلاقات في بيئة أسرية مليئة بالحب والرحمة، بيئة تقيم علاقاتها مع الطفل على
أساس احترام الإنسان وتقبّله. وكلّ نقص في هذه العلاقات المبكرة أو اضطراب، ستجعل
من ذات الطفل خلية غير سليمة في المستقبل، تنمو وتمتدّ لتشكّل بعض مظاهر المرض
الأخلاقي في المجتمع الكبير.
2-تقبلّ الذات:
وهذا الشرط يرتبط بالشرط السابق، ويطرحه
الطفل على شكل تساؤل: من أنا؟ والإجابة
الصحيحة عن هذا التساؤل، هي في توفير ما يحتاجه الطفل لتقبّل ذاته؛ فهو لا ينقطع
عن التساؤل عن تكوينه وهيئته، ومدى ملاءمتها وتقبّلها، وعن تقبّل من حوله له؟
فالطفل الذي يحرم من حنان صدر أمّه، وينتزع
من إرضاع حلبيها، يمكن أن يتطوّر لديه عنف إجرامي، لأنّه يتعلّم أنّ الناس
يمكن أن يصدر عنهم الخير والشرّ، وهذه حقيقة مرعبة للطفل في المرحلة المبكرة.
ولذلك كان حبّ الأسرة الوافر أمراً ضرورياً
للطفل، ولا سيّما في هذه المرحلة، لأنّه يعزّز في نفس الطفل تقبّله لنفسه وتقبّل
الآخرين له، ويفتح عينيه على الفضيلة في الإنسان، فيدرّ بها على محبّة الآخرين
وحسن الظنّ بهم.
3- تمييز الطفل للسلوك المقبول:
يحتاج الطفل خلال عملية تحديد الهوية وتقبّل
الذات، إلى أن يسأل الطفل نفسه السؤال الحاسم، وهو: كيف يجب أن أسأل؟ وفي
هذه الحال يحتاج الطفل إلى نماذج أخلاقية تساعده في بناء سلوكه؛ وهذه الحالة تسمّى
عند علماء النفس: " تمييز السلوك " أمّا عند علماء الاجتماع
فيطلقون عليها مصطلح " نماذج أو أنماط سلوكية ".
ومن الطبيعي أن يكون الوالدان أول من يمدّ
الطفل بنماذج عن السلوك الذي يبحث عنه، ثم يستمدّ الطفل هذه النماذج من بيئته الاجتماعية الواسعة. فتصبح هذه
النماذج – فيما بعد- هي النماذج الأخلاقية التي يقتدي بها، وتتمركز حولها مثله
العليا وصورته المثالية التي ينشدها.
4- تكوين ضمير ناضج:
ينطلق الطفل في ذلك من الإجابة عن التساؤل
التالي: ما هو الصحيح الذي يجب أن أفعله؟ وهذا التساؤل يرتبط أيضاً
بالتساؤل السابق: كيف يجب أن أسأل؟ فحالما يختار الطفل " مثله الأعلى "
و" نماذج القدوة "، فإنّه يتساءل: ما هو إذن العمل الصحيح الذي يجب أن
أفعله؟
وهنا يبدأ ضمير الطفل بتوجيهه، لأنّه من دون
تطوير مقياس الضمير الأخلاقي، يصعب نموّ القيم الأخلاقية..حيث تفشل التربية في
تطوير هذا الضمير، بسبب غياب المسؤولية أمام قوّة حقيقية يحسب لها الفرد حساباً
حقيقياً.
5- الإنجاز والنجاح:
وهنا يصل الطفل إلى تقويم عمله بطرح التساؤل
التالي: ما قيمة العمل الذي أقوم به؟ فبعد
أن اختار قدوته وحاز المحبّة العائلية، يحتاج إلى تطوير " مفهوم الذات
الإيجابي " وأن يختبر قيمة النجاح، وأن يتذوّق أبعاد المحبّة التي ترافق
ذلك.. فحين يكرّر الوالدان رضاهما ومحبتهما لإنجازات الطفل، فإنّه يتولّد في نفسه
إحساس بالقيمة والكرامة.
لكنّ السخرية والهزء وتقليل قيمة الأطفال،
كلّها عوامل تعوّق تأسيس هذه الظروف أو الشروط التي تسبق التهذيب الأخلاقي. وذلك
لأنّ الشروط السابقة للتربية الأخلاقية، يمكن أن تقود إلى سلوك أخلاقي أو سلوك غير
أخلاقي، كما أنّ الحرمان من هذه الشروط ينتج شخصيات تتّصف بالاضطراب العقلي
والأخلاقي.
أقراء ايضاء : مفهوم الأخلاق وأهميتها ونموّها عند الطفل
والخلاصة، أنّ هذه الشروط التي يجب توافرها
للتربية الأخلاقية في مجتمع الأسرة الصغير، هي شروط مترابطة فيما بينها ومتكاملة
في إطار إنتاج الشخصيّة الأخلاقية. ولذلك تشكّل الأسرة بيئة أساسية بل وحاسمة في نموّ الطفل، كما تشكّل عاملاّ أساسياً
وقويّاً في تطور الطفل الأخلاقي، وفي تشكيل سلوكه الخاص والعام المتناسق والثابت،
فيما بعد.
يرتبط دور الأسرة في التربية الأخلاقية بتنمية
السلوكات الأخلاقية عند الأبناء، ولا سيّما أخلاقيات التعامل مع الآخرين، والتي
تتمثّل في احترام الفرد حقوق الآخرين وممتلكاتهم والممتلكات العامة، وكلّ ما من
شأنه أن يعزّز التفاعل الاجتماعي ووحدة الجماعة. وهذا يقتضي من الأسرة اتباع
أساليب خاصة بالتربية الأخلاقية، تتسّم بالجدّية والإنصاف وتعليم قواعد الأخلاق
وضوابطها.
إنّ الطفل يتعلّم المبادىء
الأخلاقية منذ السنوات الأولى من حياته، فهو يمتصّ هذه القيم من والديه ومن الكبار
الذين يحيطون به أو يشرفون على تربيته. ولكنّ للمبادىء الأخلاقية معاني خاصة لدى
الطفل في مراحله الأولى.
فمهموم الخير والشر عند الطفل، يختلف عمّا هو
عند الراشد الكبير؛ فالخير في نظر الطفل هو عبارة عن أشياء يسمح له القيام بها،
أمّا الشرّ فهو الأعمال التي لا ترضى أمّه عنها. فالأمانة تعني في نظره، هي أن
يعمل ما تنصحه به أمّه.ولذلك نجد الطفل في مرحلة نمّوه الأولى، يتقبّل القيم
الخُلُقية من الكبار عن طيب خاطر، ومن دون
مناقشة أو نقد.
وعندما يتقدم الطفل في السنّ، يأخذ في مناقشة هذه القيم فلا يتقبّل المواعظ والإرشادات قبولاً مطلقاً ومن دون تفكير، بل يحاول أن يتعرّف طبيعة هذه القيم وأبعادها.. وعندما يصل إلى مشارف المراهقة، فإنّه يبدأ بتناول مبادىء الكبار وسلوك الوالدين بالنقد والتحليل، بل يعمد إلى التفكير في قيم المجتمع من حيث محتواها ومعناها.
ومن هنا تأتي أهميّة الأسرة في تكوين العادات الأخلاقية
السليمة عند الأبناء منذ طفولتهم.
إنّ وحدة المتطلّبات التربوية، هي قانون قطعي
لا يمكن تغييره. والتناقضات الداخلية في الأسرة، التي لا يمكن تفديها في أغلب
الحالات، يجب أن تخفى عن عيون الأطفال، تلك العيون الحساسة والمتيقّظة. وإن كان من
الصعوبة بمكان الحديث عن تخطّي التناقضات النفسية (السيكولوجية) الخالصة، فإنّ
بلوغ وحدة وجهات النظر الأخلاقية والمنطقيّة في مراعاة المعايير الأخلاقية، أمر
ضروري لا محالة.
وقد أوضحت بعض الدراسات التربوية أنّ السلوك اللاأخلاقي لدى بعض المراهقين، غالباً ما تكون له جذور من خبرات مرحلة الطفولة، حيث ينقص الآباء الدفء العاطفي للتعامل مع أبنائهم وتوجيههم. فعندما يكون الوالدان دافئين في علاقتهما بالأبناء، فإنّ الأبناء من جهتهم سوف يتصرّفون تصرّفات أخلاقية سليمة.
وهذا يعني أن يتمّ تكوين الأخلاق تدريجياً في المجال الأسري، بحيث لا يشعر الطفل بثقلها وصعوبة تطبيقها في الواقع العملي. وهذا يدخل في عملية التطبيع إلى الجوانب الأخلاقية الأساسية في الحياة، والتي من دونها لا يمكن للفرد أن يحقّق حسن التعامل مع الآخرين.
2- اللقاءات الأسرية:
تهدف اللقاءات الأسرية إلى تكوين احترام حقيقي
بين أفراد الأسرة الواحدة، ومساعدة كلّ فرد فيها على التعاون المشترك في اتخاذ
القرارات، وتحمّل مسؤولية العيش مع هذه القرارات. ومن شأن ذلك أن يساعد الأبناء
على تشرّب القيم الأخلاقية الأسرية.
فهناك الكثير من الوالدين الذين يرغبون في أن
يحيا أبناؤهم الحياة الأخلاقية السليمة، إلاّ أنّهم لا يعطون الأبناء الرعاية الكافية من أجل تهيئتهم لهذه
الحياة، ولا يشركونهم في مناقشة المفاهيم الأخلاقية، فينشأ هؤلاء الأبناء على قيم
مادية خالصة؛ وتجدهم يعترضون بشدّة على بعض القرارات الأخلاقية التي يصدرها الآباء
والتي لا تنسجم مع قيمهم الذاتية.
ولذلك ينبغي على الآباء والأمهات تنظيم لقاءات
أسبوعية يتحدّثون فيها مع أبناهم، عن قيمهم ومفاهيمهم للحياة ومبادئها، ومع مرور
الوقت يتحوّل الأمر المطروح للنقاش في هذه
اللقاءات، عن أصل هذه القيم والمبادىء، إلى وسائل وطرق تطبيقها وتحقيقها. فإشراك الأبناء
في صنع القرارات، يساعدهم في التفكير الذاتي وتكوين قيمهم، ونموّ ضمائرهم
الأخلاقية.
3-عوامل مساعدة في التربية الأخلاقية في
الأسرة:
ثمّة عوامل أخرى متعدّدة يمكن أن تساعد الأسرة
في تحقيق أهداف التربية الأخلاقية، التي يستطيع الطفل من خلالها اكتساب الفضائل
وحسن الخلُق، وذلك بتعويد الطفل على:
1- التفكير في الآثار المترتّبة على حسن الخلق: لأنّ معرفة ثمرات فعل الأشياء،
واستحضار حسن عواقبها، تعدّ من أكبر الدواعي إلى فعلها وتمثّلها، والسعي إليها.
2- النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمّل فيما يجلبه سوء الخُلق من الأسف، والهمّ الملازم، والحسرة والندامة، والبغضاء في قلوب الناس.وهذا يتبع بالتوصية بحسن الخلق، وذلك ببثّ الفضائل وتشجيع حسّ الأخلاق والتحذير من مساوىء الأخلاق، ونصح المبتلين بسوء الخلق.
3-التحلّي بالصبر: فالصبر من الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها الخلق الحسن؛ فالصبر يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكفّ الأذى، والحلم والأناة والرفق، وترك الطيش والعجلة.
4-التسليم بالخطأ إذا وقع، والحذر من تسويفه: فذلك آية حسن الخلق وعنوان الهمّة، ثمّ أنّ فيه سلامة من الكذب ومن الشقاق؛ فالتسليم بالخطأ فضيلة ترفع قدر صاحبها.
5- مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة، فهذا الأمر من أعظم ما يربّي على مكارم الأخلاق وعلى رسوخها في النفس؛ فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، وشديد التأثّر بمن يصاحب.
وثمّة عامل آخر يمكن أن يضاف إلى هذه العوامل، وقد يكون جامعاً لها، وهو ما يعرف بالرياضة الأخلاقية، التي تستند إلى مبدأ: عوّد نفسك على احتمال الشرور العارضة في الحياة، وعلى إطراح المتع الناقلة للمتاعب، وهذا نوع من التدبير الصحّي للإنسان، يقوم على المحافظة على الصحّة الأخلاقية.
الأخلاق الفضيلة وما الأخلاق الفاضلة، بل عليه أن يمارسها قولاً وفعلاً، ويروّض نفسه على تحقيقها انطلاقاً من استعدادين نفسيين هما: النفس الشجاعة والنفس المرحة في أداء واجباتها. فما يؤدّيه المرء بغير قبول أو سرور، ليس له أية قيمة أخلاقية.
4- تكامل دور الوالدين في التربية الأخلاقية:
يعدّ
الوالدان أوّل المربين للأبناء، حيث تشكّل أقوالهما وأفعالهما وسلوكاتهما دروساً
مهمّة بالنسبة للأبناء، من حيث المحبّة والصدق والأمانة والتعاون، وكلّ ما يرسم
معالم حياة الطفل، الفرد الحالية والمستقبلية.
وهذا يقتضي من الوالدين أن يعملا بالتوافق
فيما بينهما، كشريكين أساسيين في بناء الأسرة، على تأمين بيئة أسرية صالحة لتربية
الأبناء، يمكن من خلالها غرس القيم الأخلاقية السليمة والاتجاهات الإيجابية التي
تتناسب مع متطلبات المجتمع، وعلى أساس مع العلم والفهم لهذه القيم وتطبيقاتها، في
أجواء يسودها الحبّ والعطف والاطمئنان. فيتعلّم الأبناء كيف يصغون للآخرين
ويحترمونهم، وكيف يتحدّثون ويتعاملون مع
من هم أكبر منهم أو أصغر، وكيف يطرحون مشكلاتهم مع والديهم ويتعاونون على
حلّها.
والخلاصة، إذا كان علماء النفس والتربية، يرون أنّ الأسس الأخلاقية لشخصيّة الفرد هي المنطلق لبناء الأخلاق، فإنّ ما يشاهده الطفل في البيت من تصرّفات والديه وما يكتسبه من هذه التصرّفات، يكون جزءاً من خُلُقه وطباعه الثابتة، غير قابل للتغيير. ومن هذا المنطلق فإنّ نمط تعامل الوالدين فيما بينهما من جهة الاحترام المتبادل والمواقف الحياتية المتوافقة، وأسلوب التعامل مع الأبناء، كلّها من الأمور البالغة الأثر في تفعيل دورهما وتكامله في التربية الأخلاقية.
أقراء أيضا :بعض الاضطرابات الانفعالية ( العــدوان - الغيرة والأنانية ) عند الاطفال
لقد تعرّضنا في الفقرات السابقة لمفهوم التربية الأخلاقية وطبيعتها وأهدافها وأبعادها، وعن التربية الأخلاقية في الأسرة وأساليبها وعواملها، ولكن على الرغم ممّا ذكر، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة صعوبات في التربية الأخلاقية بوجه عام، وفي الأسرة بوجه خاص، نجملها بما يلي:
4/1- ثمّة أطفال يبدو أنّ لا تأثير للتربية عليهم، لأنّهم يواجهونها منذ نعومة أظفارهم بعناد طبع قوي التكوين، أصيل لا يتبدّل، من أمثال الأطفال الغضوبين / الثائرين، أو العنيدين أو الصامتين / المغلقين، بل حتى الفاسدين أو الكارهين..وترجع هذه السمات – في كثير من الأحيان – إلى ظاهر كبت مبكر، لم يأبه له المحيطون بالطفل؛ وبتعبير آخر، ترجع إلى تربية أولى مهملة وغير متبصّرة.
وإلى جانب الطباع البارزة، هناك الطباع التي لا شكل لها، الطباع الضعيفة، العديمة اللون (غير المتناسقة) وغير المستقرّة، التي لا تجدي فيها التربية، لأنّها لا تعرف في الحقيقة من أين تقبض عليها.
4/2- نجد أحياناً أن الأخوة والأخوات والأطفال الآخرين، والأشخاص الغرباء، يعيشون / يحيون إلى جانب الطفل ويتصرّفون أمامه تصرّفاً لا يأبه له، ومع ذلك فجميع الصور التي يلتقطها، وجميع الكلمات التي يسجّلها، وجميع الأمثلة التي يشهدها، تصوغ وعيه في غفلة من والديه ومربّيه.
4/3- ونجد – فيما بعد- أنّ البيئات الاجتماعية المختلفة، ولا سيّما الأسرة والمدرسة، تحدث آثاراً تربوية / أخلاقية متناقضة بدلاً من أن توحّد آثارها؛ فللأسرة في معظم الأحيان، أخلاقها المكوّنة من طقوس مألوفة، ومن عادات عاطفية قائمة على الشفقة والثقة، وللمدرسة في المقابل، أخلاقها التربوية أيضاً، بل ولها دروسها في الأخلاق، والتي قد لا تنطبق مبادئها الموجّهة، مع الأخلاق التي تقدّمها الأسرة.
إنّ هذه الصعوبات، وإن وجدت بنسبة ضئيلة، فإنّها بلا شك تعوّق التربية الأخلاقية، وهذا يقتضي من الأسرة باعتبارها المؤسّسة التربوية الأولى، أن تؤمّن المناخات التربوية السليمة بما يتناسب مع المراحل النمائية للأطفال من جهة، ومع الفروقات (الشخصيّة) فيما بينهم من جهة أخرى. وتبقى المسألة الرئيسية في التربية الأخلاقية، هي في ترتيب الحسّ الاجتماعي والمبدأ الأخلاقي في سلّم القيم التربوية، الذي يشكّل شبكة من العلاقات الاجتماعية التي تنظّم التعامل بين أبناء المجتمع والتفاعل البنّاء فيما بينهم على أساس السلوك السليم (الفردي والجماعي).
والخلاصة، إنّ الأسلوب الأكثر مناسبة لتعليم المفهوم الأخلاقي، هو الأسلوب الذي يأخذ بالتجربة الحيّة، والمواقف اليومية التي تعيشها الأسرة بمضمونها الاجتماعي، وذلك بتحريك الرغبة الداخلية للطفل من أجل عمل الخير والابتعاد عن الشرّ. وهذا بلا شك أفضل من فرض القيم والمفاهيم الأخلاقية على الطفل، عن طريق التهديد أو التخويف، بدلاّ من الإقناع والوعي والممارسة الفعلية.
فالطريقة التي تحترم حرية الطفل، وتعمل على تنمية قناعته الداخلية وشخصيته المستقلّة في تحمّل المسؤولية واتخاذ القرار المناسب، يكون لها تأثير أكثر إلزاماً وفائدة. وهي الطريقة التي تركّز على دوافع الخير والفضيلة، وتعطي السلوك نوعاً من المصداقيّة، من خلال المواقف الإيجابية المترافقة بالتعزيز والتشجيع. وإنّه لمن المؤكّد أنّ عملية التربية الأخلاقية تحتاج لكي تنجز هذه المهمّات، إلى تفسيرات مقنعة وتوضيحات منطقية، توصل الطفل إلى احترام قواعد السلوك الأخلاقي والالتزام بالقيم الأخلاقية؛ أي تكوين الشخصيّة الأخلاقية..!
سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله
ردحذف