التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عصر النهضة الأوروبية وتغيير النظرة إلى الطفولة


عصر النهضة الأوروبية وتغيير

 النظرة إلى الطفل

كان الآباء في القرون الوسطى، لا يتمتّعون إلاّ بقدر قليل من معرفة طبيعة الطفولة، وإدراك ميزاتها الخاصة. وذلك لأنّ الطفل ما أن يتمكّن من العيش بعيداً عن أمّه أو مربيته، حتى يحسب على مجتمع الكبار، من دون النظر إلى سنّه وحاجته إلى متابعة الرعاية وتأمين حاجات النموّ الأساسيّة.

وما أن بدأت الحضارة الغربية بالنهوض من الجمود الفكري والركود الاجتماعي، حتى لاحت ومضات المفهوم الحديث للطفولة بوصفها مرحلة من مراحل الحياة، ولها خصائصها المميّزة. ففي القرن السابع عشر، كتب / توماس هوبز /: إنّ لضمان نموّ مناسب للطفل، يجب أن تؤمّن له الوقاية الشديدة جسمياً وأخلاقياً، ويجب أن يتلقّى وبشكل دقيق، تربية منظّمة وخاصة؛ وبعد سنوات طويلة من الرعاية والإعداد، يكون قد تهيأ لسنّ الرشد، على نحو لائق.

ولذلك شدّدت الأخلاقية الجديدة لعصر النهضة، على أهميّة الأسرة وإلقاء المسؤوليات الخاص على الآباء في التعامل الإيجابي مع الأبناء، وتلقينهم السلوكات اللائقة، بعيداً عن العنف والقسوة. فالتربية السليمة تبدأ من البيت، وعلى النظام الأسري أن يكون صارماً ومطلقاً، خشية أن يؤدّي الإفراط في التساهل والتدليل إلى إفساد الأطفال. وهذا ما عبّر عنه / جوفان إدوارد / بقوله: " يعدّ الحنان والتدليل الخاطئان من قبل الآباء، دماراً لكثير من الأطفال..".

وكان من نتيجة ذلك أن اضطلع الأهل بمسؤولياتهم بجديّة تامة، من أجل انتزاع الطاعة من أطفالهم، ليس من أجل سلطة الآباء فحسب، بل من أجل مصلحة الأطفال أيضاً. وعلى الرغم من ذلك، بلغت المعاملة الوحشيّة للأطفال، ذروتها في القرنين  السادس عشر والسابع عشر.

أمّا في القرن الثامن عشر، فقد حدث تحوّل إيجابي في النظرة إلى الطفولة، حيث ازداد التركيز على الطفل في المجتمع الأوروبي، وتصاعد الاهتمام به وتأمين الرعاية المناسبة له.. والكفّ عن العقاب الجسدي لتحقيق الانسجام الجسدي والنفسي / الروحي عند الطفل. وممّا يدلّ على ذلك، إبطال المفهوم (الكالفني) الذي كان يعتبر الأطفال فاسدين بالفطرة، وإبداله بالنظرية البيئيّة التي تقول بأن الطفل يولد لا صالحاً ولا فاسداً، والتجربة الإنسانية هي التي تكيّفه. ودعمّت هذه النظرية أفكار / جون لوك / الطبيب الفيلسوف، في كتابه " بعض الأفكار حول التربية " عام 1693، والذي رأى فيه أنّ العقوبة يجب أن تطبّق باعتدال، وعلى الأطفال الصغار جدّاً..

وفي نهاية القرن الثامن عشر، مضى الفيلسوف، التربوي / جان جاك روسو / بمعتقدات / جون لوك / إلى أبعد من ذلك، بتأكيد البراءة الأساسية عند الأطفال، وقام بدور بارز في رفع مكانتهم في المجتمع. فقد أحدث بأفكاره ثوره ثورة تربوية، شبّهت بثورة / كوبرنيك / في علم الفلك، حيث لفت الانتباه إلى حاجات الأطفال وحقوقهم الخاصة، من خلال معرفة الطفولة على حقيقتها، التي ترجمها بصيحته الشهيرة: " افهموا الطفولة على حقيقتها، ولا تتسرّعوا في الحكم عليها خيراً أو شرّاً.." تلك الصيحة التي أذهلت العالم وغيّرت النظرة إلى الطفولة رأساً على عقب. وخاطب الوالدين بقوله: " تعرّفوا إلى أطفالكم، لأنكّم يقيناً تجهلونهم كلّ الجهل" 

، حثّ / روسو / الآباء والمربين على معرفة الطفولة وحبّ الطفولة، وإطلاق العنان لألعاب الأطفال ومسرّاتهم، وطبيعتهم البريئة وعدم مصادرتها، لكي يعيشوا طفولتهم على حقيقتها بحريّة، ويكونوا أطفالاً قبل أن يكونوا رجالاً.

وجاءت قضيّة الطفلة / ماري لا بلن / فيما بعد، لتكون حافزاً  على تأسيس جمعيات حماية الأطفال، في مناطق متعدّدة من العالم، وإصدار القوانين التي تعاقب الآباء الذين يعاملون أطفالهم بقسوّة ويسبّبون لهم الأذى. فقد ولدت / ماري لابلن / بصورة غير شرعية في عام 1866، وعاشت تحت وصاية مؤسّسة خيرية في نيويورك بعدما عاشت ثماني سنوات برعاية أبوين بالتبنّي، وهي تتعرّض للضرب والتجويع والإهمال؛ فلم تحصل على حذاء، ولم يسمح لها باللعب مع الأطفال، ولم يقبّلها أحد، وكانت سيّدة البيت تضربها كلّ يوم. فلم يشارف القرن التاسع عشر على النهاية، حتى زاد عدد جمعيات حماية الأطفال على (250) جمعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وصدر مرسوم عام 1947، لمنع إساءة معاملة الأطفال، كما أسّس مركز وطني ضدّ إساءة معاملة الأطفال وإهمالهم.

وذهب المجتمع السويدي إلى أبعد من ذلك، حيث أقرّ البرلمان السويدي، عام  1978، قانوناً يمنع كلّ أشكال القصاص الجسدي والعقاب اللفظي والعاطفي للأطفال. وعلى الرغم من عدم تضمينه عقوبات ضد منتهكيه، إلاّ أنّه وضع معياراً جديداً لعلاقات الآباء بالأطفال في ذلك المجتمع. وفي بريطانياً، صدرت تشريعات وقوانين لمحاسبة الوالدين الذين يستخدمون العنف ضدّ أطفالهم، وذلك بعد أن يتقدّم الأطفال بشكاوى تثبت سوء معاملة والديهم..وتمّ تعميم هذه التشريعات على المنظّمات والهيئات الرسمية والخاصة.

وتبقى التساؤلات مطروحة حول طبيعة الممارسات التعسفيّة ضدّ الأطفال والمؤذية؛ كيف يكون العنف الأسري تعسفيّاً ضد الأطفال؟ ما  الممارسات الأسرية التي تعدّ إهمالاً بحقّ الأطفال؟ ما حدود السلطة الوالدية في حياة الأطفال؟ وما التأثيرات النفسية والاجتماعية للعنف الأسري؟

  أقراء ايضأ:العنف الأسري  


3- أسباب العنف الأسري ضدّ الأطفال

يعدّ الزواج شراكة مقدّسة بين شريكين (رجل وامرأة)، اختارا أن يعيشا معاً وعملا من أجل بناء أسرة خاصة بهما. وهذا يتطلّب أن تبنى العلاقة بينهما على أساس الوعي بالمهام الأسرية، والاحترام المتبادل بينهما، بما ينعكس إيجابياً على كلّ منهما أولاً، وعلى تربية الأبناء فيما بعد ثانياً.

وعلى الرغم من أنّ ثمّة حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أنّ الأبناء مصدر سعادة للوالدين، غير أنّ هؤلاء الأبناء، قد يكونون أحياناً، مصدر إزعاج للوالدين، لا بل مصدر إزعاج، بسبب الظروف الاجتماعية / الاقتصادية التي تعيشها الأسرة، أو بسبب قلّة خبرة الوالدين التربوية في التعامل معهم، ولا سيّما في مرحلتي الطفولة والمراهقة، الأمر الذي يسيء إلى العلاقة بين أفراد الأسرة، ويؤدّي إلى استخدام أساليب العنف والقسوة، نتيجة الضغط الذي يعاني منه الوالدون، أو لضبط سلوكات الأبناء على حدّ زعم الآباء والأمهات.

ولذلك فإنّ ثمّة أسباب متعدّدة لاستخدام الوالدن أساليب العنف ضد الأطفال، وفي مقدّمتها: الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛

3/1- الوضع الاجتماعي: يحدث العنف الأسري على المستويات الأسرية الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، وإن كانت الأسر من الطبقتين (المتوسّطة والعليا) تتكتّم على هذا العنف حفاظاً على مكانتها وسمعتها. أمّا إنكار حدوث العنف الأسري في الطبقة الدنيا، على الرغم وجوده بكثرة، فهذا يعني إنكاراً للقاعدة الاجتماعية التي يستند إليها العنف. وإذا كانت الطبقات الاجتماعية جميعها، تمارس العنف ضد الأطفال بمستوى واحد، فهذا يعني إمكانية تفسير الإيذاء من قبل الوالدين على أنّه مرض نفس يحتاج للعلاج، وليس للاستجابة المجتمعيّة. 

3/2- الوضع الاقتصادي: أشارت معظم الدراسات إلى أنّ الأطفال الفقراء يتعرّضون للإيذاء الشديد الناتج عن العنف الأسري، بنسبة أكبر ممّا يتعرّض له الأطفال غير الفقراء. كما أنّ الأطفال الفقراء، أكثر عرضة للعقاب الجسدي. ولذلك فإنّ ثمّة ارتباطاً بين استمرار حالة الفقر في الأسرة، واحتمالات تكرار العنف الجسدي ومخاطره. وهذا ما يدعم النظريات التي تفترض أنّ الظروف الاقتصادية العامة التي تعيشها الأسرة، تؤثّر سلباً على معاملة الأطفال من جانب الآباء الذين يعانون من الضغط الاقتصادي المستمرّ. 

3/3- الوضع الثقافي: افترض / ستراوس وزملاؤه / في دراستهم عام (1980) أنّ العلاقة بين الدخل والعنف الأسري، قد تكون غير مباشرة، لأنّ ثمّة عوامل متعدّدة قد تخفّف من حدّة هذه العلاقة، وما ينتج عنها من توّترات وضغوطات يعاني منها الوالدان. لكنّ مصادر الدخل المرتفعة في الأسرة، ومستوى التعليم الجيّد للوالدين، يؤدّيان إلى انخفاض معدّلات الإيذاء الجسدي.

     وفي مصر، أثبتت الدراسات أنّ بعض برامج وسائل الإعلام وأفلام العنف، تروّج لظاهرة العنف والعدوان بأنواعه المتعدّدة: (اللفظية والبدنية والتسلّطية). كما أثبتت الدراسات أيضاً، إنّ أبناء الآباء الأميين، هم أكثر عدوانية من أبناء الآباء ذوي المؤهلات التعليمية (المتوسّطة والعالية)، أي أنّه توجد علاقة عكسيّة بين عدوانية الأبناء ومستوى تعليم الآباء.

 أقراء ايضأ:صـراع الأجيال

4- العنف الأسري الحالي ضدّ الأطفال ونتائجه

إنّ العنف الشائع، اليوم، في معاملة الأطفال، لا يعني أنّ تاريخ معاملة الأطفال استمرّ على حاله من العنف والقسوة، كما كان في المراحل التاريخية السابقة، من دون أن يطرأ عليه أي تحسّن سواء في العناية بالأطفال أو حمايتهم، أو ضمان حقوقهم. فبعض الممارسات التي تعدّ اليوم  تعسفيّة في تنشئة الأطفال، ربّما كان ينظر إليها، فيما مضى، وفي سياقها الاجتماعي، على أنّها مقبولة في مراحل معيّنة، بل وضرورية في التعامل مع الأطفال وتربيتهم.

يلجأ العاملون في الميدان الطبّي / النفسي، إلى تعريف حالات العنف الأسري ضدّ الأطفال وتشخيصها، بوصفها حالات إيذاء متعمّد، جسدي أو نفسي، عندما يتوافر دليل واضح على وجود الإصابة التي تشير إلى أنّها حدثت نتيجة لارتكاب الفعل عمداً، من قِبَل أحد الوالدين أو كليهما، وذلك لأنّ الإصابة المتعمّدة للطفل، هي نتيجة لظاهرة العنف الشائعة تجاه الأطفال. وبالتالي، فإن العنف تجاه الأطفال هو نتيجة لشيوع ظاهرة  العنف بين أفراد الأسرة، حيث أشارت بعض الدراسات إلى أنّ ثمّة علاقة متداخلة بين إساءة معاملة الزوجات والعنف ضدّ الأطفال، وإساءة معاملتهم، ولا سيّما من قبل الأمهات.

وثمّة أشكال للعنف الأسري ضدّ الأطفال، يمكن إجمالها بشكلين أساسيين هما(الإيذاء الجسدي والانتهاك الجنسي)،  ويندرج ضمن كلّ منهما عدداً من الممارسات ذات الطابع التأثيري السلبي على صحّة الطفل الجسدية والنفسيّة.

 4/1-الإيذاء الجسدي:
ويقصد به الفعل الذي يعرّض الأطفال لخطر الإصابة بدرجة عالية، بسبب طبيعته العنيفة والتي تشمل –غالباً- اللكم والرفس، والضرب المبرح الذي يسبّب بعض التشوّهات والعاهات المزمنة التي تؤثّر في حياة الطفل المستقبلية.. إضافة إلى التهديد باستخدام السلاح، الذي قد يسبّب للطفل الأذى الجسدي، أو النفسي بحيث يبقى قلقاً ومتوتّراً وحائراً، وقد يترك البيت ويذهب إلى الانحراف.

لكنّ مصطلح الإيذاء لا يعبّر عن الإيذاء الجسدي فحسب، بل يعبّر أيضاً عن سوء التغذية، والفشل في النموّ، والإيذاء الجنسي، والإهمال في العلاج.. والإيذاء العقلي.. إضافة إلى سوء معاملة الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، من جانب شخص مسؤول عن رعايته، أو أن يعيش الطفل في ظلّ ظروف سيّئة.

ففي دراسة استقصائية قام بها / سترواسStraus وجيللز Gelles وشتاينمتز Steinmetz ٍ/ عـام (1980)  في أمريكا، حـول العنف الأسري الذي يسبّب الإيـذاء الجسـدي للأطفال، تبيّن أنّ (82%) من الأطفال من عمر (3-9) سنوات، تعرّضوا للضرب من قبـل الأهـل، وحوالي (66%) من الأطفال قبل المراهقة، بينما تعرّض (3%) للرفس واللكم، و(3%) للتهديد بالسلاح. وتبيّن أيضاً أنّ أكثر من (3%) من الأطفال، يتعرّضون لخطر الإصابة الحقيقية بسبب عنف الوالدين في التعامل معهم. كما تضمّنت البيانات القومية الأمريكية، عام 1982، حوالي مليون تقرير رسمي عن إهمال للأطفال وعنف جسدي ضدّهم. (عن: 

 وبما أنّ الدراسات الاجتماعية تأخذ الأسرة، بوصفها وحدة متكاملة من الأفراد المتفاعلين فيما بينهم، لذلك يتمّ التركيز في دراسة العنف الأسري، على العلاقات السلبية السائدة بين هؤلاء الأفراد، وما ينتج عنها من مظاهر العنف، سواء بين الوالدين أو بين الوالدين والأبناء.

4/2- العنف يولّد العنف:

يكون للتربية الأسرية هنا دور بارز في إكساب الأبناء عادة ممارسة العنف، حيث يشبّ الأشخاص الذين عانوا  من العنف والتعسّف في طفولتهم، وهم يميلون إلى ممارسة العنف والقسوة في التعامل مع أطفالهم، بدرجة أكبر من أولئك الأشخاص الذين لم يعانوا  من العنف الأسري، أو عانوا من عنف أقلّ، في طفولتهم.

وقد أشارت دراسات في هذا الصدد، إلى أنّ أشكال العنف، وحتى أقلّها قسوة، تنتقل من جيل إلى جيل. وهذا ما أكّدته دراسة / شتراوس وجيللز وستانمنتز /، استناداً إلى الفرضية القائلة بأنّ " العنف يولّد العنف ". وأوضحت الدراسة أيضاً، أنّه كلّما تواتر العنف بصورة متزايدة، كانت الفرصة أكبر أمام الأطفال، لكي ينشأوا شركاء في العنف مع آباء وأمهات عنيفين. وهذا ما صرّح به كثير من الوالدين التعسفيين، الذين اعترفوا بأنّهم تعرّضوا للعنف والمعاملة القاسية، في أسرهم وهم أطفال. وبيّنت الدراسة أنّ الأزواج الذين يتربّون في أسر يسودها العنف، يكون احتمال استخدام أسلوب الضرب مع زوجاتهم، يفوق عشرة أضعاف الأزواج الذين يتربّون في أسر لا يسودها العنف.

وهذا ما يؤكّد مبدأ القدوة في التربية، من خلال أفعالها وممارساتها، حيث يكون التأثير التربوي / السلوكي، الإيجابي أو السلبي، أكثر فاعلية من التوجيهات والنصائح النظرية بلا تطبيق فعلي.

4/3- الجنـوح:

تشير الدراسات والبحوث المتعدّدة (الاجتماعية والتربوية) إلى أنّ السبب الرئيسي في جنوح الأطفال  هو، بالدرجة الأولى، إساءة معاملة هؤلاء من قبل الوالدين.ويتجلّى ذلك في حرمان الأطفال من الرعاية الأسرية الكاملة، واستخدام الأساليب القاسية في التعامل معهم من قبل الوالدين، ولا سيّما العقوبات الجسدية التي لا تتناسب مع حقوق احترام شخصيات الأبناء.

فثمّة أطفال يعيشون في أسر تبدو متكاملة، ولكنّهم لا يشعرون فيها بالأمن والاطمئنان، وإنما يشعرون بالغربة عنها، وهم يعانون من آلام جسدية ونفسيّة، نتيجة ما يتعرّضون له من القهر والحرمان، والعنف الجسدي بأشكاله المختلفة. وهذا كلّه يولّد لدى الأطفال ضغوطات وإحباطات متتالية، تصل إلى حدّ يدفعهم إلى الهروب من البيت بحثاً عن حاجات الحبّ والأمن والكرامة، التي افتقدوها في أسرهم.. وقد يؤدّي ذلك إلى جنوح بعض هؤلاء الأطفال وارتكابهم جرائم أخلاقية واجتماعية، كالسرقة أو التسوّل، أو الاعتداء على الآخرين، وغيرها. وقد تصبح فيما بعد، عادة متأصلة في تكوينهم الشخصي.

وفي هذا الصدد، أفاد مكتب الإحصاء العام في أمريكا، عام 1978، أنّ حوالي مليوني طفل صغير، أغلبهم من أسر الطبقات المتوسّطة والعليا، يهربون من البيوت ويغيبون عن أسرهم.. لكـنّ (80%) من الأطفال الهاربين يعودون إلى منازلهم خلال يومين، في معظم الأحوال، لأنّهم لا يستطيعون الانخراط في الأنشطة المنحرفة، وبالتالي لا يقعون ضحيّة أولئك المنحرفين. أمّا الأطفال الآخرون / الهاربون، والذين تقدّر نسبتهم بـ (20%)، فينجرف كثير منهم بتيار الانحراف أو يعملون بالدعارة، أو في توزيع المخدّرات لكي يعولوا أنفسهم. 

وذلك كلّه ليس إلاّ ردود فعل إسقاطية / انتقامية  عمّا عانى منه الأطفال في أسرهم من العنف وقسوة المعاملة. وعندها  تصبح المشكلة على درجة كبيرة من التعقيد، وقد يصبح حلّها مستحيلاً أو غير ممكن في ظروف معيّنة، عاشها الأطفال وما زالوا يعيشونها.

لقد نزايد اهتمام الدول المتقدّمة في العقدين الأخيرين، بحوادث العنف الأسري ضدّدالأطفال، حيث عمدت إلى تسجيل جميع الحالات التي يبلّغ عنها إلى الجهات الرسمية. وهذا ما أدّى إلى إظهار متعاظم لمعدّلات الإيذاء التي تلحق بالأطفال، ونتيجة لعاملين أساسيين:

أولهما:إنّ قوانين كلّ دولة تنصّ  على التسجيل الإلزامي لحالات إيذاء الأطفال، وإخضاعها لخدمات مؤسّسات (رعاية الطفولة)، الأمر الذي أدى إلى تسجيل ملايين الحالات التي أغفلت من قبل.

وثانيهما: أنّ هناك معايير جديدة  تحدّد مقدار العنف الذي يسمح للوالدين استخدامه في تأديب (تهذيب) أبنائهم، بحيث يكون التسامح من وجهة نظر قانونية، وليس من وجهة نظر ثقافية / اجتماعية. وبناء على ذلك تتمّ محاسبة الوالدين وتجريمهم بأفعال إيذاء الأطفال والإساءة  إليهم، تبعاً لشدّة الفعل وتأثيره.

وقد ذكر (روبيرتسون )أنّ أبرز حالات العنف الأسري التي  لفتت انتباه الباحثين والمعنيين بحماية الطفولة، والتي تتعلّق بإيذاء الأطفال، تلك الأفعال الخطيرة التي تتجاوز العقاب البدني، وتتمثّل في ضرب الطفل بشكل مبرح وبقسوة شديدة، قد تصل إلى حدّ كسر العظام في أحد الأطراف.. أو ربط الأطفال وتقييدهم من دون حركة مدّة  ساعات عديدة، قد تصل إلى يوم كامل، أو لدغ الأطفال  وإحراقه بأعقاب السجائر المشتعلة.. وغير ذلك من الحالات التي  تصل أحياناً إلى حدّ القتل..

ولا بدّ من الإشارة، أخيراً، إلى أنّ معظم البيانات التي اعتمدت في البحث صادرة عن جهات أجنبية، ولا سيّما تلك التي تهتمّ بشؤون الأسرة والعنف الأسري. أمّا المصادر العربية عن العنف الأسري فهي قليلة جدّاً، وربّما نادراً، بسبب النقص الكبير في إجراء مثل هذه الدراسات، سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى التربوي، باستثناء بعض الدراسات الفردية (المسحيّة أو النظرية) التي لا يمكن أن تعبّر عن حقيقة المجتمع بكامله. لكن يمكن أن يكون واقع العنف الأسري في المجتمع المصري نموذجاً عمّا هو في المجتمعات العربية.

 لقد زادت في مصر حالات سوء الأطفال، ولا سيّما في العقدين الأخيرين، حيث سجّلت في الثمانينيات من القرن العشرين اهتماماً كبيراً بالعنف بصورة عامة، والعنف ضد الزوجات وضدّ كبار السنّ بصورة خاصة. وكان من أهمّ العوامل التي تميّز الأشخاص الممارسين للعنف الأسري، التنشئة الاجتماعية غير السليمة، والظروف المعيشية المتدنية، والضغوطات الاقتصادية المتزايدة..ولذلك لا أحد بين أفراد الأسرة من هو محصّن ضد العنف والإهمال. 

على الرغم من عدم وجود دراسات استقصائية / مسحيّة دقيقة عن أشكال العنف في المجتمع المصري، وإن كان التركيز فيها على العنف ضد الزوجات وإساءة معاملة الأطفال.

إنّ البيانات الأخيرة والخاصة باعتداء الأمهات على الأبناء، في المجتمع المصري، ولا سيّما الاعتداء على الذكور، توضح مدى العدوانية التي أصبحت عليها بعض الأمهات اللواتي فقدن أمومتهنّ.. فالأطفال يعانون من الإيذاء الجسدي والشتم والضرب، ويشاهدون هذا السلوك يتكرّر مراراً داخل المنزل. كما يتعرّض الأطفال للإيذاء الجنسي الذي يتمّ غالباً بواسطة شخص معروف للطفل، قد يكون أحد أفراد أسرته، ويدخل ذلك في إطار اغتصاب المحارم. 

وضمن هذا الإطار، أصبحت عملية ختان البنات الصغيرات على أنّها من أنماط العنف الأسري، الذي لا تقتصر مضاعفاته على الصدمة العصبية والنفسيّة، والنزيف والآلام، بل قد تدفع الطفلة حياتها ثمناً لهذه العملية. 

وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أنّ أشكال العنف المختلفة التي تتعرّض لها الطفلة في بعض الأسر المصرية، تشتمل على: الختان، والتحرّش الجنسي، واغتصاب المحارم، وزواج القاصرات.

كما تعرّضت دراسة أخرى إلى الجذور التاريخيّة لظاهرة ختان البنات، موضّحة التقاليد والشعائر التي تصاحبها، وآثارها على الطفلة المختونة. وقدّمت الدراسة استناداً إلى النتائج السلبية، رؤية مستقبلية حول ظاهرة ختان البنات الصغيرات، ولا سيّما بعد القيود التي فرضتها الدولة على ممارسة هذه العملية. 

وقد اعتبرت الدراسة أنّ التشويه الجنسي للفتيات الصغيرات، هو انتهاك لحقوق الإنسان بصورة عامة، ولحقوق الأطفال بصورة خاصة. وركّزت على أهميّة التدخّل القانوني للحدّ من هذه الظاهرة حفاظاً على صحّة الفتيات وسلامتهنّ  النفسيّة والاجتماعية.

وإذا كنّا لا نملك المعطيات الكافية عن العنف الأسري في مجتمعنا، فهذا لا يعني أنّ هذه الظاهرة غير موجودة، بل على العكس، فهي موجودة وربّما بنسب لا يستهان بها، ويحتاج الكشف عنها إلى دراسات جريئة ومعمّقة، من قبل الباحثين الاجتماعيين والتربويين، وجميع الجهات المعنية برعاية الطفل وحماية الطفولة..! 

 

5- مقترحات لمعالجة العنف الأسري ضدّ الأطفال

   إذا كانت الأسرة هي المؤسّسة التربوية الأولى، فإنّ التربية في هذه المؤسّسة تتوقّف على ثقافة الوالدين بالدرجة الأولى، وقدرتهما في ممارسة الدور التربوي المنوط بهما، والذي يتجلّى بحسن تصرّفاتهما الخاصة، وفي علاقاتهما مع الأبناء بعيداً عن أساليب الحرمان والقسوة والعنف..!

وفيما يلي بعض المقترحات التي تحسّن الأجواء الأسرية وترفع من مستوى الوالدين، الثقافي والتربوي:

1- تعزيز التكامل الأسري، أي الحفاظ على البنى الأسرية المتماسكة، في إطار تنظيم الأسرة بما يحقّق الاستقرار المعيشي / التربوي، حيث يلقى الأطفال الرعاية اللازمة التي تضمن لهم النموّ (الجسدي والنفسي والعقلي)، والتنشئة الاجتماعية السليمة.

2-إدخال مادة (التربية الأسرية) ضمن المناهج المدرسيّة في نهاية المرحلة الثانوية، والمرحلة الجامعية، لتعليم الشباب (الذكور والإناث) أصول الحياة الزوجية السليم القائمة على التعاون البنّاء والاحترام المتبادل بين الزوجين، وأفضل الطرائق التربوية في التعامل مع الأبناء، تبعاً لمراحل نموّهم المتدرّجة. بما يسهم في تكوين شخصياتهم المتوازنة، ويبعدهم عن مظاهر الحرمان والانحراف.

3- توعية الوالدين وتوجيههم إلى الأساليب التربوية السليمة، من خلال مجالس الآباء والمعلمين في المدارس، بحضور خبراء تربويين، ومناقشة أفضل الأساليب التربوية للتعامل مع الأطفال / الأبناء، وتوضيح الدور المهمّ للتربية الأسرية.

4-عقد لقاءات جماهيرية وندوات تلفازية، يدعى إليها الوالدون وبعض المختصّين في التربية وعلم النفس والقانون.. تدور فيها مناقشات صريحة وواضحة حول الأساليب التربوية (الصحيحة والخاطئة) في التعامل مع الأطفال، ولا سيّما العنف وما يترتّب عليه من آثار سلبية على الطفل، من النواحي الجسدية والنفسيّة والاجتماعية.

5-إصدار كراسات ونشرات دورية، عن وزارات تعالج في موضوعاتها دور الأسرة التربوي، ومخاطر أساليب العنف والقسوة والإحباط.. على مستقبل الأبناء، وتأمين حقوق الطفل الأساسية في الأسرة.

6- تقديم برامج تربوية للوالدين ضمن دورات خاصة، بالتعاون بين الجهات الرسمية المعنية والمنظمات الشعبية ذات الشأن، يتاح لهم من خلالها الاطلاع على أساليب تربوية ناجعة، ويستطيعون أن يتخلّصوا من بعض الممارسات الخاطئة في التعامل مع أبنائهم، ولا سيّما استخدام العنف والعقاب الجسدي.

7-إصدار تشريعات وقوانين خاصة بمعاملة الوالدين القاسية والمؤذية للأبناء، وتحت طائلة المحاسبة القضائية، على غرار ما هو موجود في السويد وبريطانيا وأمريكا.. وغيرها من البلدان، بما يكفل الرعاية السليمة للأطفال وضمان حقوقهم الذاتية والاجتماعية.

وأخيراً لا بدّ من التأكيد على ضرورة امتلاك الوالدين المفاهيم والمبادىء الأولى عن الطفولة ومراحل نموّها، وميزات كلّ مرحلة ومتطلباتها الجسدية والنفسيّة، وكيفيّة التعامل معها.. وغير ذلك ممّا يساعد الوالدين في المهام التربوية الأسرية، كمربين ومرشدين لأبنائهم، من أجل تهذيبهم وضبط انفعالاتهم وأخلاقهم، بأساليب إنسانية بعيدة عن القمع وهدر الكرامة وتحطيم الشخصيّة، والإيذاء الجسدي أو النفسي..والاستفادة من الحكمة القائلة:

      " من السهل أن تكون أباً أو أمّاً.. ولكن من الصعب أن تكون مربياً..".


تعليقات

  1. سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله

    ردحذف

إرسال تعليق

مرحبا بتعليقك عبر عن رائيك شاركنا....

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مفهوم التربية الأخلاقية وأهدافها واهميتها طرائقه

  أولاً- مفهوم التربية الأخلاقية وأبعادها  يجمع المربون على أنّ تنمية القيم الأخلاقية في نفوس الناشئة، جزء أساس من عناصر التربية العامة، وأنّ كلّ تربية تخلو من العناصر الأخلاقية، ما هي إلاّ تربية عديمة الجدوى.  فتربية الشخصية المتكاملة والمتوازنة، لا تتحقّق إلاّ مع التربية الأخلاقية السليمة، باعتبار أنّ الأخلاق إذا ما تأصّلت في ذات الفرد، تصبح قوّة دافعة للسلوك والعمل والتعامل الإيجابي والفعّال.  وانطلاقاً من هذه الأهميّة للأخلاق والقيم والأخلاقية، فقد جهد الباحثون والدارسون، في إعطاء مفهومات للتربية الأخلاقية، من جوانبها المختلفة.  فعرّفت التربية الأخلاقية من حيث تعليم القيم الأخلاقية، بأنّها: التعليم المباشر وغير المباشر للأخلاق بهدف التعرّف إلى قيمة السلوك الخيّر أو الخُلقي، في ذاته من جهة، وبالنسبة للأفراد والمجتمع من جهة أخرى، وتحليل المبادىء التي تتحدّد في ضوئها هذه القيمة أو تلك..  أي أنّ التربية الأخلاقية هي: تعليم المبادىء الأخلاقية وممارستها، أو هي تكوين بصيرة  أخلاقية عند الطفل / الفرد، يمكنه بها التمييز بين سلوكي الخير والشرّ.  ...

العوامل التي تؤثّر في التربية الأسـرية

     تمتاز التربية الأسرية بأنّهما عمليّة نفسيّة – اجتماعية، يخضع لها الفرد (الكائن البشري) من ولادته حتى نضجه، حيث يصبح شخصاً اجتماعيّاً كامل الصفات والموجبات اللازمة لعضويته الاجتماعيّة.وتقوم هذه العملية على التفاعل بين الطفل والأسرة، من خلال مجموعة من الروابط والعلاقات التي تنظّم حياة الأسرة، وتحدّد دور كلّ فرد فيها..وثمّة عوامل مؤثّرة في هذه العلاقات، تتمثّل في أوضاع الأسرة: (العاطفية والأخلاقية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية)، حيث تتفاعل هذه العوامل فيما بينها، لتشكّل طبيعة النظام الأسري الذي ينعكس بدور على تربية الأبناء وتنشئتهم، بصورة إيجابية أو سلبيّة.     فما   الأوضاع الأسرية التي تؤثّر في التربية الاجتماعيّة؟ وكيف تتعامل معها الأسرة؟      أقراء أيضا :العوامل التي تؤثّر في التربية الأسـرية أولاً- الوضع العاطفي للأسرة :         يختلف تأثير الأسرة في النمو الاجتماعي للفرد،   تبعاً لنوع الأسرة   والعلاقة العاطفية التي تربط بين أفرادها، إيجاباً أو سلباً. فعلاقة الطفل بالأب في سنو...

مرطب للبشرة

 المكونات خذي بياض بيض   ملعقة حليب  ملعقة عسل طريقة العمل واخلطيها جيدا وضعيها على الوجه لمدة 15 دقيقة ثم اغسلي وجهك  أقراء ايضا للحصول على شعر أسود لامع  وصفه مضمونه ومجربه لعمل رموش كثيفة  مرطب طبيعي للشفاه  طريقة العناية بالقدمين  وصفة لزيادة الوزن الطبيعي من 5 الى 7 كيلو فى الشهر وصفه مجربه لزياده الصدر مرطب طبيعي  لاطاله الشعر في شهر ونصف  اكليل الجبل لعلاج قشرة الشعر الدهني  وصفه لشد الوجه  وصفه لبشره صافيه و نقيه للحصول على اظافر قويه وصلبه وصفة لتكثيف الشعر  لشعر ناعم كأنه مستشور طريقه عمل زيت مساج في المنزل  مرطب طبيعي للوجه لبشرة كالحرير  طريقة تفتيح  وتنعيم الكوع والركبة تنعيم وتفتيح اليدين  طريقة نفخ الشفاه في المنزل  طريقة عمل ماسك لشد الوجه  ماسك للبشره الدهنيه  فوائد بياض البيض للبشره  توجد العديد من الفوائد التجميلية لبياض البيض منها  أنه يحارب حب الشباب  يصغر المسامات الكبيره   يقوم بالتخلص من الرؤوس السوداء يمنع انتفاخ منطقه حو...