أولاً- مفهوم التربية الأخلاقية وأبعادها
يجمع المربون على أنّ تنمية القيم الأخلاقية
في نفوس الناشئة، جزء أساس من عناصر التربية العامة، وأنّ كلّ تربية تخلو من
العناصر الأخلاقية، ما هي إلاّ تربية عديمة الجدوى. فتربية الشخصية المتكاملة والمتوازنة، لا
تتحقّق إلاّ مع التربية الأخلاقية السليمة، باعتبار أنّ الأخلاق إذا ما تأصّلت في
ذات الفرد، تصبح قوّة دافعة للسلوك والعمل والتعامل الإيجابي والفعّال.
وانطلاقاً من هذه الأهميّة للأخلاق والقيم
والأخلاقية، فقد جهد الباحثون والدارسون، في إعطاء مفهومات للتربية الأخلاقية، من
جوانبها المختلفة.
فعرّفت التربية الأخلاقية من حيث تعليم القيم الأخلاقية، بأنّها: التعليم المباشر وغير المباشر للأخلاق بهدف التعرّف إلى قيمة السلوك الخيّر أو الخُلقي، في ذاته من جهة، وبالنسبة للأفراد والمجتمع من جهة أخرى، وتحليل المبادىء التي تتحدّد في ضوئها هذه القيمة أو تلك..
أي أنّ التربية الأخلاقية هي: تعليم المبادىء الأخلاقية وممارستها، أو هي تكوين بصيرة أخلاقية عند الطفل / الفرد، يمكنه بها التمييز بين سلوكي الخير والشرّ.
وعرّفت التربية الأخلاقية من حيث شموليتها بأنّها: التربية التي تشمل السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية، ولذلك ليس ثمّة مانع من أن نطلق عليها أسماء أخرى، مثل: " تعلّم لتعيش " أو " العلاقات الشخصيّة " أو " التربية الاجتماعية " أو " التربية الصحيّة "وما شابه ذلك..ويتّضح مجال التربية الأخلاقية وموضوعها بشكل أكبر / عن طريق التمييز بينها وبين غيرها من أنواع التربية الأخرى، مع ملاحظة أن التربية الخلقية –بمعناها الواسع والشامل – أعم من كلّ هذه الأنواع وتتضمنها جميعاً؛
فالتربية الأخلاقية إذن هي تربية الإرادة، تربية أعمق ما لدى الكائن. ولكنّ التصوّر الذي يكوّنه الكائن عن نفسه، لا ينمو إلاّ تبعاً للتصوّر الذي يكتسبه عن الموضوع.. ولا توجد تربية أخلاقية (خُلُقية) مستقلّة عن التربية الفكرية، ولا عن التربية الاجتماعية.
فالوالدون جميعهم والمربّون يسعون جاهدين لأن
يخلقوا في الطفل / الناشىء إنساناً شريفاً ومواطناً مخلصاً لوطنه ومجتمعه، ويتمتّع
بشخصية نشيطة وواعية، حيث تعتمد هذه الصفات جميعها على القاعدة الأخلاقية. ولذلك
فإن مسائل التربية الأخلاقية للطفل يجب أن تحتلّ مكانة متقدّمة في نشأته وتبلور
شخصيته الذاتية المتميّزة في إطار شخصيته الاجتماعية / الإنسانية العامة.
وبناء على ذلك، تتمثّل مظاهر التربية
الأخلاقية في الجوانب التالية:
1- المعرفة العلمية للأحكام الأخلاقية العاقلة،
والأدوار والمهارات الاجتماعية المرافقة لها.
2- المعرفة النظرية للمبادىء الأخلاقية الأساسية،
والعالم الطبيعي للأشخاص، أي معرفة الذات والآخرين.
3-الاتجاهات الواعية والتلقائية في تفكير
الإنسان، والحكم عليه بشكل أخلاقي، بعد معرفة الحكام الأخلاقية.
4- الخبرات العاطفية لالتزام الأحكام الأخلاقية
العقلانية التي تسهّل السلوك الأخلاقي، وترغّب به.
فالصفات الأخلاقية – في معظمها إن لم تكن كلّها – صفات مكتسبة من خلال التعلّم والممارسة في أجواء باعثة عليها، ومشجّعة عليها، لتكون جزءاً من شخصيّة المرء، تحرّكه وتوجّهه في حياته الفعلية نحو الخير، وتبعده عن الشر.
وبذلك تتحدّد التربية
الأخلاقية بالجوانب الثلاثة التالية:
1- الجانب المعرفي: ويعتمد على تزويد الأطفال والناشئة
بالمعلومات والمعارف المرتبطة بالقيم، من خلال تنمية الضمير وتربية الإرادة
الأخلاقية وتقويتها بالقدرة على الاختيار السليم.
2-الجانب الوجداني: ويكمن في إيمان الفرد بالسلوك الأخلاقي النابع من شعوره بالرضا والسعادة، وهو يؤدّي السلوك الذي اختاره بحريته.
3-الجانب السلوكي: الذي يكتسبه الفرد من خلال التعلّم والتدريب
على العمل الأخلاقي في أثناء التربية، بحيث يستطيع التمييز بين السلوك الأخلاقي
وغير الأخلاقي، من حيث نتائجه الفردية والجماعية.
ثانياً- أهداف التربية الأخلاقية
إنّ الهدف الرئيسي من التربية الأخلاقية، هو تشجيع الطفل على أن ينمو نموّاً أخلاقياً بأقصى ما يستطيع إدراكه وحكمه الأخلاقيين.
ولكن هذا لا يعني أن يكون لكلّ طفل دستوره الأخلاقي الخاص به، والذي يتعارض مع دستور غيره، أو أن يتخلّى الأطفال بالضرورة عن مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية التي ساعدت على نموّهم في أثناء فترة الطفولة. وهذا يتطلّب أن تعنى التربية الأخلاقية بالقيم الحقيقية التي تحكم السلوك الحرّ، لا بمجرّد أنماط معيّنة من السلوك المقبول؛ فلا يكفي أن يتعلّم الفرد كيف يجب أن يسلك بتدريبه على إطاعة ما يسمّى بالقانون الأخلاقي للسلوك، بل يجب أن تقدّم له مجموعة من المثل العليا التي ينافح من أجلها.
فالتربية الأخلاقية ليست أحكاماً مسبقة وقوالب جامدة، وإنّما تتطلّب نموّاً من الداخل ووعياً ذاتياً؛ فهي تعمل على تشجيع النموّ الداخلي للطفل / الناشىء، من خلال تقديم القاعدة الأخلاقية على صورة ناتجة عن المواقف الحياتية اليومية، وليس على شكل رغبة آنية خاصة.. أي أنّها يجب ألاّ تكون في صورة تساؤل: " أنا أريد أن تفعل هذا.." وإنّما في صورة: " من الضرورة أن تفعل هذا" وهذا يعني بالتالي أن تعمل التربية الأخلاقية، على أن اكتساب الأخلاق يجب أن يكون مصحوباً بالوعي الذاتي بالقيم الأخلاقية، وذلك بأن نشرح للأطفال دائماً، لماذا يجب أن نعمل هذا ونتجنّب ذاك. حتى في الحالات التي لا تتطلّب بالضرورة معرفة الأسباب .
واستناداً إلى ما تقدّم، يمكن إجمال أهداف
التربية الأخلاقية من الوجهة النفسية والتربوية بما يلي:
1-أن تنمّي في الفرد إدراك، أو فهم، وجهة النظر
الأخلاقية أو الأسلوب الأخلاقي، للحكم على الأفعال وتقدير ما يجب على الفرد أن
يفعله.
2-أن تنمّي في الفرد الاعتقاد في واحد أو أكثر
من المبادىء العامة الأساسية، والمثل والقيم، أو تبنّيها،كركيزة أو دعامة نهائية
للأحكام والقرارات.
3- أن تنمّي في الفرد الاعتقاد في عدد من
المعايير الملموسة والقيم والفضائل، أو تبنّيها، مثل: العفّة والأمانة
والصدق...وغيرها.
4- أن تنمّي في الفرد الاستعداد لأن يعمل ما هو
حسن أخلاقياً، وما هو صحيح أو صواب من وجهة النظر الأخلاقية.
5-أن تشجّع الفرد على أن يصل إلى التقائية في
التأمّل الذاتي، وضبط النفس والحرية الروحية، حتى وإن أدّى ذلك بالفرد إلى أن
ينفّذ المُثُل والمبادىء والقواعد السائدة كلّها.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك نوعين من التربية الأخلاقية، تربية أخلاقية سلبية، وتربية أخلاقية إيجابية. فالتربية الأخلاقية السلبية تقوم على قدر كبير من التأديب والتهذيب باستخدام العقاب والقيود، بغرض منع تكوين الاستعدادات الأخلاقية السلبية، وتعويد الطفل على الطاعة والخضوع.
أمّا التربية الأخلاقية الإيجابية، فتعتمد ليس على التأديب وتكوين
العادات الحميدة فحسب، وإنّما تستند على قواعد أخلاقية، حيث ينشط الطفل في هذه
التربية ويفكّر وفقاً لقواعد تستند إلى المنطق العقلي، إلى منطق يستطيع الطفل أن
يدركه ويأخذ به. وبذلك يتحقّق الوجه الأول للتربية الأخلاقية الإيجابية عن طريق وضع القواعد المبنية على التأمّل
الذاتي وممارستها، أمّا الوجه الثاني، فهو اكتساب الاستعدادات الأخلاقية الفاضلة؛
وبهذا المعنى تكون التربية الأخلاقية ذات شقيّن:تعلّم الواجبات، وغرس الاستعدادات
لأداء هذه الواجبات بوحي من الواجب والضمير.
وهكذا تهدف التربية الأخلاقية إلى تنمية الأخلاق
الصحيحة، والمسؤولية الأخلاقية والسلوك الأخلاقي السليم. كما تعمل على تهذيب إدراك
الفرد وفهمه للأسلوب الأخلاقي الذي يمكّنه من الحكم على الأفعال من الجهة
الأخلاقية، وتقدير ما يجب عليه القيام به ليكون شخصاً ناضجاً أخلاقياً؛ لأنّ الشخص
الناضج أخلاقياً يتمتّع بصفات أربع متداخلة فيما بينها ومتكاملة في سلوك
الفرد،وهي: (الاستقلالية والعقلانية
والإيثار والشعور بالمسؤولية).
أقراء ايضأ :التربية الأخلاقيّة في الأسرة
ثالثاً- أهميّة التربية الأخلاقية
لقد كان الاهتمام بتربية النشء وما زال، وفي سائر المجتمعات عبر الأزمنة،
يستند بشكل أو بآخر، إلى نوع من أنواع التربية الأخلاقية، أيّاً كانت مناهجها
ووسائلها. ولذلك نجد أنّه على الرغم من تنوّع آراء الباحثين فيما يتعلّق بالتربية
الأخلاقية، فإنّ ثمّة قواسم مشتركة فيما بينهم حول القواعد العامة لهذه التربية،
ولا سيّما الأمور المتعلّقة بإعداد نفس الطفل / الناشىء لتلقّي تعاليم الأخلاق،
عبر المراحل النمائية وأنماطها المختلفة.
وهذا الاهتمام تؤكّده الاتجاهات التربوية
الحديثة التي تعنى بالتربية المتكاملة والمتوازنة بين جوانب الشخصيّة الإنسانية
(الجسدية والنفسية والعقلية والأخلاقية والاجتماعية..)، وتحقيق فردية الإنسان
المتميّزة في إطار الشخصية الاجتماعية، بما يحقّق الوحدة والانسجام بين أبناء
المجتمع. فالإنسان كائن أخلاقي، وهو الوحيد بين المخلوقات الذي يستطيع أن ينظر إلى
الأمور الحياتية نظرة عقلانية، فيختار منها ما يناسبه وما يحقّق له أهدافاً
معيّنة.
واستناداً إلى ما تقدّم، يمكن تحديد ضرورات
الاهتمام بالتربية الأخلاقية بالأسباب التالية:
1- التنوّع الاجتماعي بالأعراق والأجناس، في بعض
المجتمعات، وما صاحب ذلك من مشكلات نفسية كالاغتراب والإحساس بفقدان الهوية
والعجز، ومشكلات اجتماعية كتعاطي المخدرات وجنوح الأحداث، وانهيار سلطة المؤسّسات
التربوية التقليدية (الأسرة والمدرسة ودور العبادة)، إضافة إلى مشكلات بيئية
وسكنية. وهذا ما لفت انتباه علماء الاجتماع والنفس والتربية، ووسائل الإعلام، إلى
ضرورة رفع درجة الوعي بالتوتّر القائم بين قيم الفرد الخاصة، والقيم المشتركة
للمجتمع الكبير.
2- شيوع الآلية في العلاقات الاجتماعية /
الإنسانية، وفقدان الدفء والحرارة في هذه العلاقات نتيجة التوسّع في استعمال وسائل
التقنية الحديثة (الكمبيوتر)، ونتيجة لتطبيقات البيروقراطية في الإدارة الحديثة،
والتركيز في الحياة العامة على العمليات والوسائل والأدوات، بدل غايات الحياة
ومقاصدها العليا.
3-ثورة الحريات في العالم على المظالم التي أوقعها الإنسان بالإنسان، على المستوى الفردي والجماعي، والحاجة إلى معالجة أمراض المجتمع والجوانب السلبية فيه، وإلى تنمية الجوانب الإيجابية في شخصيّة الإنسان وسلوكه.
فالنسبية في النظرة إلى القيم والسلوكات، التي أشاعتها بعض الفلسفات
التربوية، حرمت المجتمع من وجود مقاييس ينظّم الأفراد سلوكاتهم طبقاً لها، كما
حرمتهم من تنمية علاقات اجتماعية متوازنة.
4- وأخيراً، الحاجة إلى نضج شخصيّة الإنسان، وعدم
الرضى بالتربية المعاصرة التي تعنى بشكل كبير بالجوانب العلمية والمهنية، أكثر من
الجوانب الأخلاقية/الإنسانية، باعتبارها تربية جافة –إلى حدّ ما- تركّز على
تنمية المعلومات والمهارات، بهدف إعداد الناشئة للعمل ليس إلاّ..!
لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة، عن مظاهر الإهمال والفساد وانعدام الضمير، في كثير من المجتمعات المعاصرة، وعزا الباحثون ذلك في معظم جوانبه ÷ إلى نقص التربية الأخلاقية منذ الصغر، والتي يفتقر إليها النشء في دراسته، والتي تؤهّله للتفاعل مع مدرسة الحياة والمجتمع الكبير.. حتى إنّ بعض المهتمين بهذا الأمر، اقترح إضافة مادة دراسية تسمّى " التذوّق الفنّي والتعامل الإنساني " وذلك في المناهج المدرسية والجامعية، يكون هدفها تعويد الأجيال الجديدة على رؤية الأشياء من زوايا إنسانية، ومعالجة المشكلات الحياتية من خلال المبادىء الأخلاقية ويقظة الضمير، وغرس الفضائل والمثل العليا في نفوس الناشئة.
وهكذا تكمن أهمية التربية الأخلاقية ومكانتها الجوهرية، في الحياة الاجتماعية وما يحيط بها من الحياة البشرية كافة، بما تتضمنه من القيم التي تعدّ من المفاهيم الأساسيّة في الميادين الحياتية التي تمسّ العلاقات الاجتماعية / الإنسانية بصورها المختلفة، باعتبارها معايير وأهداف ضرورية لا بدّ منها لتنظيم المجتمع، مهما كان مستوى تقدّمه وتطوّره.
فالتربية الأخلاقية إذن أمر لا بدّ منه
لاتزان الشخصية الفردية وتكاملها من جهة، ولدوام الحياة الاجتماعية السليمة
وتقدّمها من جهة أخرى..لأنّ كلّ تقدّم في أي مجال من مجالات التنمية الاجتماعية،
مرهون إلى حدّ بعيد بمدى إيمان أفراد المجتمع بالقيم الأخلاقية وتمسّكهم بها، ومدى
سعيهم في إطارها لبلوغ المثل العليا، وتحقيق الكمال الاجتماعي.
أقراء ايضأ :مفهوم الأخلاق وأهميتها ونموّها عند الطفل
رابعاً- مضمونات التربية الأخلاقية
إنّ غرس الأخلاق لدى الطفل لا يتمّ دفعة
واحدة، وإنّما يتمّ بشكل تدريجي يتناسب مع مراحله النمائية، حتى لا يشعر بالصعوبة
والعجز، ولا يرى مشقّة في تطبيق الأخلاق بصورة عملية. ولذلك، فمن الضروري هنا أن
تتصاعد الأعمال الأخلاقية من المرحلة السهلة إلى المرحلة الصعبة فالأكثر صعوبة وتعقيداً،
مع الأخذ في الحسبان ظروف الطفل وقابلياته، ومستوى إدراكه وقدرته على التحمّل
والصبر وإنجاز ما يطلب منه.
ومن خلال التعوّد، يصبح القيام بسلوك خاص أمراً ميسوراً على الطفل، وتزول مشاعر الملل والمعاناة، ولن تكون هناك حاجة للتصنّع أو التظاهر، ولن يكون الطفل بالتالي بحاجة إلى تفكير جديد بشأن كل حالة، أو أن يطالب بأوامر جديدة في كلّ مرحلة.
فالتطبّع والتعوّد على الجوانب الأخلاقية، من المسائل
الأساسية في الحياة، والتي لا يمكن بدونها اعتبار الفرد بأنّه ذو أخلاق، أو أنّه
على خلق كريم.
واستناداً إلى مفهوم التربية الأخلاقية
وأهدافها، فإنّ ثمّة قيماً أساسية يجب أن تتضمنها هذه التربية لكي تسهم في بناء
الشخصيّة الأخلاقية السليمة، مع العلم بأنّ كلّ قيمة من هذه القيم تتضمّن عدداً من
القيم الأخلاقية الفرعية، في إطار تكامل منظومة القيم الأخلاقية.. أمّا القيم
الأخلاقية الأساسية، فهي كالتالي:
1- الواجب والحقّ:
لا ينفرد الإنسان عن سائر الأحياء بأنّه كائن
مزوّد بالعقل، وبأنّه يحيا حياة اجتماعية وحسب، بل إنّ عقله وطراز حياته
الاجتماعية يختلفان اختلافاً نوعياً عمّا تتّسم به أرقى الحيوانات ببعض مظاهر
السلوك العقلي والاجتماعي. وبما أنّ الإنسان يدرك تقويم حقيقة أفعاله، فإنّه يعي
مسؤوليته وينسبها إلى غاية يتطلّع إلى تحقيقها؛ وهذا يعني أنّ الإنسان يسعى لتعريف
إرادته بحسب الأهداف التي يرمي إليها، ويكون تقويمه لها تفكيراً من الدرجة
الثانية، تفكيراً يقوّم فكرته عن أفعاله قبل حدوثها، وإبّان إجرائها، وبعد
إنجازها.
فالإنسان يؤمن بأنّه كائن متكامل، وأنّ مطلب التكامل هو مطلب العمل الأخلاقي؛ ومن إعمال الإنسان فكره في قيمة أفعاله الأخلاقية، يستخلص مفاهيم هي بمنزلة ترجمات متعدّدة، أو أوجه متباينة، من أصل واحد، هو القيمة الأخلاقية بوجه عام. ولعلّ كلمة (واجب) هي اللفظ الأكثر شيوعاً في أحاديث الناس كلّما فطنوا إلى الوجود الأخلاقي..فالواجب لا يبدو في الشعور إلاّ عندما يعترض سبيله تصوّر آخر هو تصوّر ما لا ينبغي أن يكون.
وبعبارة
أخرى، إنّ تعبير " يجب " والإعراب عن الوجوب، يبدوان حيث يشعر الإنسان
بأنّ أمراً ما مرفوض لأنّه سىّء أو خبيث أو ضار أو شرير. وهذا يعني أنّ الواجب أمر
قطعي يقرّ به الإنسان العاقل ـ ولا يستطيع إنسان أن يخالفه إذا حرص على أن يتّصف
بكرامة إنسانية حقيقية، هي له قيمة عليا لا يعلوها سواها.
إنّ تحقّق مضمون الواجب يضفي على الفعل صفة
" الشرعية " لاتفاقه مع
القانون الأخلاقي والقانون الوضعي على حدّ سواء؛ والشرعي صفة مزدوجة تصف الوجه
الآخر للواجب، وهو وجه الحق. وهذه الصفة تجعل حقّ الإنسان في فعل أي أمر، يعني من
جهة أولى أنّ القانون الوضعي يسمح له بذلك، كما يعني من جهة أخرى أن القانون
الأخلاقي يسمح له، باعتبار أنّ الفعل المعني لا يعتبر خطيئة أو شرّاً. وعندما
يؤدّي الناس واجباتهم على الوجه السليم، لا تبقى حاجة للمطالبة بالحقّ، فللواجبات
والحقوق أهمية واحدة، ما دام حقّ الآخر هو واجبي نحوه، وواجبي نحوه هو أساس حقّه
عليّ. فالحقّ كما عرّفه (كانت): " هو جملة الشروط التي تتيح لحرية كلّ فاعل
أن تتّسق مع حريّة الجميع ".
2- العدل (العدالة):
إنّ التقاء الحقّ بالواجب، التقاء متبادلاً،
يستند على قيمة أخلاقية تربط أحدهما بالآخر، وتؤلّف تركيبهما الذي يستندان كلاهما
إليه، وهو إحقاق الحقّ وتلبية الواجب، وهذا التركيب هو العدل، ونقيضه الظلم.
فمفهوم العدل والظلم يتّصلان أشدّ الاتصال
بمفاهيم الشرعية والخطيئة؛ فالظلم ينطوي على خطيئة، والظالم هو ظالم على الدوام
حيال شخص آخر، ظالم باقترافه خطيئة نحوه، وذلك عندما يغتصب حقّ هذا الشخص أو يمنعه
من التمتّع به، فيؤذيه ويمتهن كرامته. وأمّا العدل، فهو نوع من الشرعية التي تنطوي
على فكرة أنّ المرء قد قام بواجبه حيال شخص، وهو واجب يقابل حقّاً.. ومثلما يكون
الفعل شرعياً عندما يكون عدم القيام به خاطئاً، كذلك فإنّ الفعل يكون عادلاً عندما
يكون عدم القيام به ظالماً. وفي وسعنا أن نقول عن فعل إنّه " عادل "
بالمعنى الدقيق، حين يمتنع الإنسان عن الإساءة إلى الآخرين وإلى أملاكهم وسمعتهم.
وقد ميّز (أرسطو) منذ القديم، ثلاثة ضروب من
العدالة: عدالة شعارها مساواة حسابية وهي تسود دنيا المبادلات، وذلك عندما يكون
حدّا التبادل متساويين أحدهما مع الآخر، أو كلّ منهما مع حدّ ثالث، وهنا يكون
التساوي في الحقوق والواجبات. والضرب الثاني من العدالة، عدالة توزيعيّة تظهر
عندما لا يكون من العدل توزيع حصص متساوية على أشخاص غير متساويين؛ غنّها عدالة رباعية
الحدود تقيم تناسباً بين شيئين وشخصين. والضرب الثالث من العدالة، هو العدالة
الرادعة (القمعية)، وقد كان شعارها " العين بالعين والسنّ بالسنّ "
ولكنّ تطبيقها لم يبقِ إيقاع عين الأذى بالأثيم الذي اقترف جرماً، وإنّما جعل شدّة
العقوبة تتناسب مع شدّة الأذى أو الشرّ المقترف.
وعلى هذا الأساس فإنّ العدالة تعوّض أو
توزّع أو تعاقب، بقصد تحقيق المساواة. والمساواة قيمة يتطلّع إليها السلوك
الإنساني ليجعلها رائداً ومعياراً. وما تساوي الناس في حقل العدل (والظلم) إلاّ
اعتبار ناجم عن اتّصافهم بالقيمة الإنسانية الواحدة، قيمة الشخص الإنساني أو
كرامته.
3- الفضيـلة:
تطلق صفة (نعت) الفاضل على الإنسان الذي ينهض
بواجباته، ويتطلّع عبرها إلى تحقيق الخير. وثمّة باحثون في الأخلاق، يجعلون
الفضيلة صنو الجدارة والتجرّد والكمال. وهي في الحقّ ليست فعلاً عابراً، بل
استعداد مألوف لتكرار الفعل الخلوق، وهي شأنها شأن العادة، تشكّل في الشخص طبيعة
ثانية.
وقد يطلق عل الفضيلة اسم (القيمة الإيجابية) كما تعتبر الرزيلة قيمة سلبية. والفضيلة بوجه عام تنزع في الحالين إلى أن تتحقّق بحسب قواعد دقيقة لأنّها معيارية.
إنّها استعداد ثابت لممارسة الخير، أي أنّها استعداد للقيام بواجب معيّن، أو عمل صالح معيّن، والرزيلة عكسها. إنّ ممارسة الفضيلة ممارسة دائمة ومعتادة يصحبها شعور يرضى أخلاقي عميق،. وعلى العكس من ذلك فإنّ الرزيلة مشفوعة دوماً بتأنيب الوجدان وتمزّق الضمير.
وقد حسب (أرسطو) أنّ الفضيلة تكون ناقصة إلاّ إذا نهض الفاعل بعمل فاضل من دون أن يشعر بصراع متّصل بحوافز عمله.
وذهب غيره إلى ضرورة اقتران الفضيلة بالاستعداد للنضال في سبيل
الخير.
فالشعور بالواجب قد يواكب النشاط الفاضل، ويستلزم الجهد والتغلّب على مقاومة ذاتية، والتطلّع الأفضل يعفي من شعور العناء والقهر الملزم، وينحو إلى الفضيلة لأنّها الأفضل. فالفضيلة والواجب يعبّران عن مثل أعلى واحد باسمين: الأول، هو الفضيلة بالتعبير الذاتي، والآخر هو الواجب بتعبير موضوعي. إنّ الفضيلة بالمعنى الدقيق خصلة السجيّة التي تهيّء لإنجاز الواجب، ولكنّها بمعنى أسمى، هي ما يجاوز الواجب.
فنطلق اسم فضائل على العفّة والاعتدال
والعدل، ونسمّي فضائل القِرى والسخاء والإحسان، عندما تجاوز حدود الواجب الضيّقة.
4- الخيـر:
إن الذين يجعلون التخلّق كلّه متضمّناً في
كلمة (الواجب) يوحّدون الحدّ الأدنى بالحدّ الأعلى. ولكنّ الاعتراف بوجود ما
" فوق الواجب " والذي يسمّى " خيراً " لا ينحدر بالمثل
الأخلاقي الأعلى، بل يرقى به، ويفسح المجال دوماً أمام مزيد من الابتكار والتكامل
في دنيا الأخلاق.
فتمييز الواجب عن الخير على هذا النحو، تمييزاً مقابلاً يفصل المسؤولية الحقوقية عن المسؤولية الأخلاقية. فالمسؤولية هي صفة من يجب عليه أن " يجيب " عن أفعاله، أي أن يعترف بها بوصفها من صنعه، وانّه يتحمل نتائجها. والمسؤولية تلازم معنى الفعل المعزو إلى الفاعل الواعي الحرّ.
وهي مسؤولية أخلاقية عندما تتناول الأفعال من حيث تحقّقها على صعيد القرار
الإرادي الداخلي أولاً، فتجعل المرء مسؤولاً أمام وجدانه، ومن حيث تحقّقها الخارجي
ثانياً فتجعل المرء مسؤولاً أمام المجتمع.
والسلوك المسؤول في الحالين، سلوك يرتبط
بالنيّة؛ والنيّة هي أعمق حامل قيمي في العمل الأخلاقي والعمل الحقوقي على حدّ
سواء. والنيّة هي سمة اختيار بين القيمة وضدّها، سمة ترجيح اتجاه الفعل شطر ما
يحقّق تعاون البشر وتآزرهم في تحقيق إنسانيتهم، وهذا هو الخير الأمثل، أو المثل
الأخلاقي الأعلى.
5- القيمة الأخلاقية:
تعدّ القيم الأخلاقية موجهّات للسلوك
الإنساني، نحو مجموعة من الأهداف والقواعد والمثل العليا، التي تلقى قبولاً
مرغوباً من المجتمع. والقيمة الأخلاقية هي قيمة الخير، إنّها فعل الخير. وقد اختلف
الباحثون منذ القدم، وما زالوا يختلفون، حول تحديد معنى الخير، أو القيمة
الأخلاقية؛ فمنهم من أراد أن يعتبر الخير سعادة، والسعادة لذّة (حسيّة ومعنوية).
ومنهم من أراد اعتبار الخير فضيلة (شجاعة أو عدل أو إحسان أو نظام أو حبّ، حبّ
الوطن وحب البشر) ..ومنهم من أراد اعتبار الخير صدقاً وأنساً وتودّداً وتعاوناً..
ومنهم من اعتبر الخير منفعة أو إيثاراً..ولكنّ الفضائل جميعها، والواجبات كلّها،
وسائر ضروب السلوك، ليست إلاّ أفعالاً وأعمالاً إنسانية قيميّة تصبّ في المجال
الأخلاقي، بين قطبي الخير والشرّ.
فبالعمل تتحقّق القيمة عامة، والقيمة
الأخلاقية على اختلاف ضروبها وأشكالها. وبهذا العمل يحقّق المرء وجوده الملتزم في
العالم، عالم الطبيعة، وعالم الاجتماع. ولا بدّ لكي يتحلّى العمل الإنساني بصبغة
القيمة من تمييز عناصر ثلاثة هي: العمل والغاية والفاعل. فالعمل تركيب ذو دلالة،
تركيب حركات تستهدف غاية. والغاية التي يتطلّع إليها العمل هي التي تسبغ عليه
معناه، فالعمل على هذا النحو هو وسيلة لغاية. ويكون العمل بالضرورة فعل فاعل من
أجل غاية، وعند ذلك نستطيع أن نعزو نتاج الفعل إلى فاعل معيّن يرتبط به ويحمل
مسؤوليته.
إنّ العمل الأخلاقي عمل قيمي، لا آلي ولا
غريزي، ولا اعتيادي لا شعوري، بل هو عمل اختيار شعوري واعٍ.إنّه يختلف عن العفوية
ويأتلف مع الحريّة، لأنّ العمل بذاته لا يكون فعلاً أخلاقياً، إلاّ إذا واكبته
حرية اختيار أمر على أمر، وترجيح قيمة على سواها، والقيمة المختارة هي غاية الفعل.
وللغايات تسلسل يستهدف غاية أخيرة قصوى، هي الغاية التي تسوّغ سلاسل الأفعال،
وتسمّى الخير الأسمى..
ولكن
أحداً لا يستطيع أن يحقّق (الخير الأسمى) وحده، فلا بدّ له من عون الضمائر، كلّ الضمائر. وهذا
التطلّع إلى تخلّق كلّي يمنح الفعل دلالته الأخلاقية التامة، ومن ثمّ يجعله قيمة
من القيم الأخلاقية، لأنّ إسهامه في الخير الأسمى إنّما يعني أن يتحقّق هذا الخير
في نهاية تداخل فاعليات الصمائركلّها، على اعتبار أنّها تؤلّف فيما بينها فاعليات
آخذة تارة، ومبدعة تارة أخرى.
والخلاصة، إنّ هذه القيم على الرغم من
تفصيلاتها (الذاتية والاجتماعية والفلسفية)، فهي متداخلة فيما بينها ومتكاملة بما
تنطوي عليه من قيم فرعية تعبّر عنها مفهوماً وممارسة، بحيث لا يمكن الفصل فيما
بينها، أو تفضيل إحداها عن الأخرى. لكنّ النظرة الأخلاقية الضيّقة في علم الأخلاق،
هي التي تحول دون إدراكنا أنّ جميع أهداف التربية وجميع قيمها، هي قيم أخلاقية في
حدّ ذاتها.
فالعمل الأخلاقي إذن، هو عمل متكامل في إطار
الهدف الأسمى بأبعاده الثلاثة الأساسية (الواجب والفضيلة والخير). وهذا ما يجب أن
تأخذ به التربية الأخلاقية، داخل الأسر وخارجها، لبناء الشخصيّة الأخلاقية السوية
الواعية.
خامساً- طرائق التربية الأخلاقيّة
يعدّ النمو الأخلاقي، وفق نظريّة التعلّم
الاجتماعي، عملية تراكم للمعلومات
والمعايير الاجتماعية والأخلاقية المكتسبة، ولذلك فإنّ اكتساب القيم الأخلاقية
والسلوك الأخلاقي، لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن اكتساب أي نوع من أنواع السلوك
الأخرى، كونه تعلّماً متدرّجاً من الطفولة وحتى النضج والبلوغ.
فالفرد يتعلّم الكثير من خلال ما يراه من
نماذج حيّة، ولا سيّما إذا ما اقترن سلوك هذه النماذج بنتائج معزّزة، الأمر الذي
يعطي أهميّة خاصّة لدور المحيطين بالطفل / الفرد، في تشكيل السلوك الأخلاقي
المطلوب، سواء كان ذلك بطريقة التلقين أو
بالحدس والملاحظة أو بالممارسة الفعّالة.
1- الطريقة التلقينيّة:
تنطلق الطريقة التلقينيّة من اعتبار وجود
الأخلاق وجوداً واقعياً مؤلّفاً من منظومة من القيم والوقائع الخارجة عن الوعي
الشخصي، وينبغي بالتالي إدخال هذه المنظومة إلى الوعي ليتمّ تكيّفه مع ضروب السلوك المطلوب منه.
وتبدأ عملية تلقين الأخلاق مع الأطفال منذ نعومة أظفارهم عن طريق الترويض، في البيت ثمّ في المدرسة، وتستمرّ إلى أن تكتمل وتستقرّ عندما يصبح الشخص قادراً على فهم مبرّرات الأفعال التي تفرض عليه عن طريق دروس الأخلاق (النظرية والعملية) والتي يقصد منها قلب سلوكه الناجم عن محرّض خارجي، إلى سلوك ذاتي مستقلّ، وذلك بربطه بمجموعة من المعاني كالواجب والخير، يمكنه أن يدركها بفكره..
وبذلك يكون دور هذه الطريقة التلقينية في تربية
الأخلاق، هو خلق طبيعة ثنائية (طبيعية روحانية – وطبيعيّة اجتماعية) قد لا تنطبق
تماماً مع طبيعة الشخص الأصلية، لأنّها تخضع
لقواعد خارجيّة.
ولذلك يرى / جان بياجه / أنّه يستحيل تزويد
الطفل / الفرد بالقيم الخلُقيّة من دون الاستعانة بالتلقين، وأن سلطة الراشدين ضرورية للقيام بهذا التلقين،
إذ لكلّ مجتمع طراز من الحياة ومجموعة من القواعد، لا بدّ أن يدرّب عليها الطفل
وأن يزوّد بالمثل العليا ليقتدي بها.
ولكنّ دور السلطة الملقّنة يبقى قليل الفاعلية عندما تكفي بالأقوال من دون الأفعال. ومع ذلك تبقى الطريقة التلقينية ذات تأثير محدود في تكوين الوعي الأخلاقي فهي تمدّ الناشىء بقواعد أخلاقية خارجية قد تجعله يقلّدها، ولكنّها قد لا تصل به إلى الارتقاء الأخلاقي الذي يتجاوز التقاليد، وقد يقف مفعولها عند تحفيظ بعض الشعائر الأخلاقية، وبذلك تبقى الأخلاق الملقّنة خارجياً لم تتّحد بشخصيّة متعلّمها، ولم تصبح طبعاً ثانياً فيه.وقد ينشأ عن ذلك صراع وتمرّد على السلطة الملقّنة يأخذ أشكالاً مختلفة، كالرياء والكذب والخبث..ولذلك يتّجه الرأي التربوي إلى الاعتدال في الترويض والتلقين، لمساعدة الناشىء على أن يكوّن بنفسه القواعد الأخلاقية التي تساعده في التكيّف الاجتماعي والشعور بالمسؤولية.
ويركّز هنا على دور الثقافة عامة والثقافة الخلقية خاصة حيث من غير الممكن إبعاد أي أثر للنزعة التلقينية وإرادة الآخرين، عن الثقافة الخلقية. فسلطة الراشد لا غنى عنها عند تباشير الحياة الخلقية عند الطفل، لأنّ لكلّ مجتمع طرازاً من الحياة، ومجموعة من القواعد لا بدّ أن يدرّب عليها الطفل / الناشىء. ثمّ أن هذه السلطة ضرورية لأنّها تجسّد مثله الأعلى، الذي يقدّم له براهين تشهد بأنّ هذا المثل الأعلى يمكن بلوغه وتحقيقه. وقيمة الراشد في نظر الطفل، هي بمقدار ما تتجسّد فيه قاعدة كلّ أخلاق، ومع ذلك فالنزعة التلقينية لا يمكن أن تكفي حقاً لتكوين وعي أخلاقي، وهي لا تعدو أن تكون أخلاقاً غير ذاتية، وخضوعاً لقواعد خارجية ليست مفهومة دوماً.
وإذا كانت النزعة التلقينيّة قد استطاعت أن
تعمّر طويلاً في التربية الأخلاقية، فذلك لأنّها استطاعت أن تؤثّر عن طريق القدوة
بصورة خاصة، وبفضل ذلك النوع من العدوى العاطفية التي تنبثق ممّن يُتّخذ مثالاً
يحتذى.
لكنّ النزعة التلقينيّة للأخلاق لم تعد
ملائمة مع الحاجات المتنامية والمتغيرة للمجتمع الحاضر، ولا تستطيع التربية
التلقينيّة أن تحتفظ بشأنها، إلاّ إذا جعلت قانونها وشرعتها باتجاه مقصود نحو تغيير نزعة الاعتماد على
الآخرين، إلى نزعة استقلالية ذاتية لا يكون هدفها المضي بالترويض إلى أبعد من حدود
الطبيعة، وضمان خضوع وعي الطفل / الشاب للقواعد القديمة بأي ثمن، بل ينبغي أن يكون
ذلك الهدف، مساعدة هذا الوعي الناشىء إلى أن يكوّن بنفسه القواعد الأخلاقية التي تسمح
له بالتكيّف مع الحياة الاجتماعية المقبلة..وبدلاً من أن تحارب نزعات الاستقلال
الذاتي لدى الناشئة، عليها أن تيسّر لها، عندما تظهر، سبل التفتّح الطبيعي وهي تنجه بذلك عندما تولّد الشعور بالمسؤوليّة الداخلية، لأنّ مبدأ
الأخلاق الحقّة هو أن يكون المرء مسؤولاً أمام نفسه بالدرجة الأولى.
وتمارس الطريقة التلقينيّة من قبل الراشدين
في الأسرة والمدرسة، حيث يعلّم الطفل / الناشىء قواعد السلوك الأخلاقي ويدرّب
عليه، مع زيادة الاعتماد على شرح تلك القواعد وتبريرها، إلى أن يستوعب الفرد
مبرّرات الأفعال الأخلاقية، ويأخذ دوره في الحياة الأخلاقية المتمثّلة في الواجب
والفضيلة والضمير..!
2- الطريقة الحدسيّة:
تعتمد هذه الطريقة على فاعلية الطفل، فلا
يكون تدخّل الراشد (المربي / المعلّم) تدخّلاً مباشراً؛ وإذا كان ثمّة حاجة
للتدخّل، فيكون بالقدر اللازم لتوجيه الطفل / الناشىء وتقديم النصح له. ويتناقص
تدخّل الراشد وتأثيره تدريجياً كلّما ازدادت قدرة الطفل على إدراك الواقع المحيط،
وتصوّر الغاية المطلوبة والتي هي غايته
ومعرفة وسائل بلوغ هذه الغاية.
ولذلك تأخذ الطريقة الحدسيّة الاتجاه
المناقض تماماً للطريقة التلقينيّة، حيث
تثق الطريقة الحدسيّة بطبيعة الطفل ثقة مطلقة، فتفسح له المجال للنموّ
نموّاً عضوياً خالصاً، انطلاقاً من الاقتناع بأن تلك الطبيعة ستصل بنفسها، إن لم
يكبّلها أو يشوّهها تأثير الراشدين إلى التفتّح الأخلاقي الكامل، وهي تقترب من
النزعة الحدسيّة في مجال الفكر والفعل.
لكن ثمّة اعتراضات (انتقادات) وجّهت إلى
الطريقة الحدسيّة في تربية الأخلاق، ومن أبرزها:
1-عدم ملاءمتها للنظام الاجتماعي، أي الظروف
المصاحبة لحياة أي نظام اجتماعي على وجه الإطلاق؛ فكلّ حياة تفترض حدّاً أدنى من
الإتباع، ولا يمكن أن تتلاءم مع تربية لا تؤدّي إلى تحقيق هذا الحدّ الأدنى، بل لا
يبحث عنه البتّة.
2- أنّ التربية الحرّة، في الطريقة الحدسيّة توفّر أيسر السبل لحدوث جميع مزالق النزعة
الفردية.
3-اعتماد هذه الطريقة على الولادة العفوية لروح
الجماعة، ولعاطفة الإلزام الخلقي، غير أنّ
التجربة أثبتت أنّ الحسّ الاجتماعي والخلقي، لم يكن ليتجاوز القدر اللازم لتنظيم
الألعاب الجماعية.
وممّا يلاحظ أن هذه الطريقة في التربية
الخلقية، تنطلق من مذهب / جان جاك روسو/ في التربية الطبيعيّة، والذي أحدث ثورة في
عالم التربية، في نهاية القرن الثامن عشر.
ولهذا كان معاصروه وتلامذته من أوائل الذين أخذوا بالطريقة الحدسيّة في التربية الأخلاقية، لأنّ
التربية الطبيعية عند / روسو / ترى أنّ التربية ليست إعداداً للحياة، بل الحياة
ذاتها، كما أنّ التربية ليست أسلوباً للتدخّل بل الاعتراف بنمو الطفل العفوي
وتسهيله.
3- الطريقة الفعّالة:
تنطلق هذه الطريقة من مبدأ أنّ الحياة
الاجتماعية نفسها، ينبغي أن تكون المجال الذي يتمّ من خلاله بناء القواعد
الأخلاقية؛ فالحياة الاجتماعية هي التي تستجيب لميول الطفل / الناشىء وإمكاناته،
في كلّ مرحلة من مراحل النموّ المتعاقبة.
إنّ الفارق بين الطريقة الحدسيّة التي تأخذ
بها التربية الحرّة، وبين الطريقة الفعّالة، هو أنّ الأولى تترك الطفل أسير طبيعته
الخاصة، بينما تهدف الثانية إلى إن تخلق فيه الحرية الحقيقيّة (الحقّة). ولهذا تدع
الطريقة الأولى (الحدسية)الوعي مغفلاً سلبياً، في حين أن الطريق الثانية
(الفعّالة) تستلزم إرادة خلق الذات والاختيار بين ممكنات عدّة..
ومن جهة أخرى، تتناقض الطريقة الفعّالة مع الطريقة التلقينيّة / التقليدية من حيث الجهد الذي يقوم به الطفل / الناشىء، والذي يلائم اهتماماته النفسيّة. فالطريقة الفعّالة لا تتجاوز تلك الاهتمامات، ولا تستند إلى شيء خارجها، بل تظلّ في اتجاه قدرات الطفل العميقة؛ وهي لا تتطلّب تدخّل الراشد إلاًّ بالقدر اللازم لتوجيهه، ووضع نموذج أمامه يحتذيه.
فعن طريق الحياة الاجتماعية يجب أن يتمّ بناء القواعد الأخلاقية، والحياة الاجتماعية في كلّ مرحلة من مراحل العمر، هي الحياة التي تتّصف بالشمول والتماسك بما يتناسب مع إمكانات الطفل واهتماماته النفسيّة. فالسلوك الأخلاقي هنا، يعتمد بدرجة رئيسة، على مبادىء ذاتية شاملة وموضوعية وثابتة، كما أنّ الفرد يحاسب نفسه بنفسه، ويعمد – أحياناً- إلى مخالفة القانون إذا تعارض مع مبادئه الخلقية، ويبدو في سلوكه وتعامله مع الآخرين، عادلاً محقّاً وحكيماً، لا تؤثّر في قراراته الظروف الآنية التي يمرّ بها، فيرى ما يراه الآخرون ويعامل الواحد منهم لذاته، ودون النظر إلى الخلفيات الأخرى
إنّ الحياة الاجتماعية التي تستجيب لاهتمامات
الطفل، تسمح له أن يكتشف حقائق خُلقيّة
جديدة من التعاون والتضامن، والشعور بالعدالة والمساواة، وفي ذلك تلتقي الطرائق الفعّالة في التربية الأخلاقية مع الطرائق
الفعّالة في التربية الاجتماعية، وتكمّلها، ويتعلّم الأطفال عن طريق العمل الجماعي
والتجربة، الشعور بالمسؤولية والخضوع للقوانين المستندة إلى المحاكمة الشخصيّة
والجماعية.
4- اكتساب القيم الأخلاقية بالنشاط الذاتي:
ثمّة من ينادي بأن تترك الحرية للطفل في تكوين
السلوك الخُلقي. وتعتبر هذه الطريقة أنّ تكوين القيم عند الطفل يتحقّق من خلال أنشطته الذاتية التي يمارس فيها
الأعمال الأخلاقية؛ وفي هذه الطريقة لا يتدخّل الوالدان إلاّ بالقدر اللازم لتوجيه
الطفل، وقيادته ونصحه. ويتناقص تأثير الوالدين وتدخّلهما بالتدريج كلّما ازدادت
قدرة الطفل على إدراك القيم وممارسة السلوك. فالتعلّم الأخلاقي بهذه الطريقة،
يتناسب مع مستوى إدراك الطفل ومع مستوى حياته النفسيّة، ممّا يجعل النتائج أفضل من
طرائق التلقين التي تعجز – في معظم الأحيان- عن التوصّل إلى تفضيل ما تعلّمه
الطفل، على قدر مداركه وحسب اهتماماته؛ فتبقى المعلومات الأخلاقية غامضة لا تفهم
أسبابها ونتائجها، ولا تدخل في حياة الطفل ومكتسباته الشخصيّة.
ولكن المنادين بهذه الطريقة، يتجاهلون أمرين
أساسيين، يتعلّق الأمر الأول بعدم الخبرة الكافية الضرورية حتى يعتمد الطفل على نفسه، في تكوين سلوكه الخلقي.
ويتعلّق الأمر الثاني بعدم قدرة الطفل على حماية نفسه ممّا قد يتعرّض له من خطر أو
أذى.
وهذا يتطلّب من الوالدين أن يساعدا الطفل في
تكوين القواعد الأخلاقية، من خلال تقديم المعلومات المبسّطة والمنظّمة، المدعّمة
بالبراهين والمبرّرات العلمية المقنعة. فخبرات الأسرة تتحكّم إلى حدّ بعيد، في
اختيار قيمها ومثلها العليا التي ترغب في غرسها لدى الأبناء..كما أنّ المستوى
الثقافي للأسرة عامة وللوالدين خاصة، يتحكّم بدرجة عالية، في الأساليب التي
تعتمدها في تربية الأبناء تربية أخلاقية.
سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله
ردحذف