إذا كانت التربية قديمة قدم الإنسان، وكلّ إنسان يحتاج إلى التربية، فإنّ التربية الأخلاقية كانت وما زالت من أقد الوظائف التعليمية. فقد اهتمّ الفلاسفة الإغريق والعلماء والمفكّرون ورجال التربية، بدور المؤسّسات الاجتماعية / التربوية في تنمية الأخلاق،حيث رأى هؤلاء أنّ لهذه المؤسّسات تأثيراً قوياً في الحياة الأخلاقية للناشئة.
وجاءت الأديان السماوية لتخطّ طرائق ملائمة في التربية بوجه عام، وفي تربية
القيم الأخلاقية بوجه خاص، لما لهذه القيم من الفاعلية في سلوك الإنسان على الصعيد
الفردي والاجتماعي والإنساني. ومن هنا
تأتي أهمية دراسة الأخلاق والتربية الأخلاقية، ولا سيّما أنّ الأطفال والشباب، في الوقت الحاضر، يواجهون
الكثير من التيارات الأخلاقية المتناقضة، والتي نشأت عن التطوّر الحضاري السريع
(العلمي والمادي)، وتتعارض في بعض جوانبها مع القيم الأخلاقية الأصيلة.
إنّ الكثير من المشكلات التي تعاني منها
المجتمعات في العصر الراهن، ومنها مجتمعاتنا العربية، هي مشكلات أخلاقية في
صميمها؛ فما يدور الحديث عنه من النفاق ومظاهر الإهمال والفساد والاستغلال،
وانحراف الأحداث والشباب، إنّما يعبّر عن أزمة أخلاقية، وعن قصور في النموّ
الأخلاقي وتربيته.
فالتربية الأخلاقية إذن ضرورة للفرد والمجتمع؛
فعلاقة الفرد بالمجتمع لا تستقيم من دون الوعي بالقيم الأخلاقية، وممارستها، كما
أنّ المجتمعات لا تحافظ على تماسكها واستمرار حياتها السليمة من دون الأخلاق
(وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت)، فالأخلاق تعطي الحياة الاجتماعية طابعها الإنساني
المميّز عن حياة الكائنات الأخرى.
ومن هنا تأتي أهمية الأسرة في التربية
الأخلاقية، من خلال غرس القيم الإيجابية والاتجاهات السليمة في نفوس الأبناء..كما
يأتي دور المدرسة ليكمل تنمية الأخلاق القائمة على ممارسة العلاقات السليمة مع
الآخرين، من خلال التعاون والتآخي البنّاء.
أولاً- مفهوم الأخلاق وطبيعتها
يشير مصطلح (الأخلاق) إلى عدد من الصفات
السلوكية التي يمارسها الفرد، وتتّفق مع القيم العليا في المجتمع، وتتضمّن خير
الفرد والمجتمع معاً، لتشمل باتساعها الخبرة الإنسانية. ومن هنا كانت للأخلاق
أبعاد نفسية واجتماعية ووجدانية.
إنّ ما يطلق من صفات أخلاقية أو غير أخلاقية،
فإنّما تشير إلى السلوك المقبول أو غير المقبول، الذي يصدر عن الشخص في موقف أو في
مواقف عدّة. وإنّ قبول السلوك أو عدم قبوله، أمر يقرّره المجتمع حين يجمع كلّه، أو غالبيته، على معايير أو
مقاييس محدّدة تحكم على هذا السلوك أو ذاك.
ولذلك فثمّة من يربط بين الأخلاق والضمير، حيث
يعرّف الضمير بأنّه شكل الوعي الأخلاقي،
كما يعتبر شعوراً من جملة المشاعر الإنسانية.. فالضمير يعمل بشكل مسبق على تقدير
هذا التصرّف أو ذاك من تصرّفات الإنسان، كتصرف أخلاقي إيجابي أو سلبي.. وتتكشّف
حقيقة ضميرنا عندما نقدم على فعل أمور تتعارض مع تصوّراتنا ومعتقداتنا الأخلاقية،
أو عندما نكون على معرفة بانّ أفعالنا هذه ستثير الشجب والاستنكار من
الآخرين.
وتتجسّد هذه المعايير (المقاييس) فيما يسمّى "
القواعد الأخلاقية "، والقواعد الأخلاقية تهتمّ بشكل أساسي بصفات: الثقة
والمساعدة المتبادلة، والعدالة في العلاقات الإنسانية.. وإذا لم توجد هذه القواعد
بدرجة معيّنة، فإنّه يصبح مستحيلاً من الناحية الواقعية، استمرار أي نشاط اجتماعي
فعّال. ولذلك فإنّ الأخلاق الحسنة هي الأعمال التي تحقّق الاتفاق بين الجميع،
وتصوّر القوانين الموجّهة لهذه الأعمال.
فالسلوك الأخلاقي الإنساني ما هو إلاّ رغبة
عقلية / وجدانية من الفرد لكي يعيش مع الآخرين، متجنّباً الأذى الجسدي أو العقلي،
ومندمجاً عاطفياً مع الجماعة، بما يؤدّي إلى بقائها وازدهارها.. فالأخلاق تعدّ عاملاً
أساسياً في نجاح المجموعات الإنسانية في التنافس والتعايش بعضهم مع بعض. والأخلاق
بالتالي ما هي إلاّ اتباع عادات المجتمع وتقاليده، وهذا يعني أنّها مستقاة في
أساسها ممّا يقرّره المجتمع، مهما كان القرار.
فالأخلاق تتألف إذن من قوانين السلوك التي يشعر أفراد المجتمع بأنّ عليهم اتباعها، وهي تنسب بشكل خاص إلى البشر؛ فقد نجد أنّ النمل وبعض الحيوانات الأخرى تبدو وكأنّها تتصرّف وفق قوانين أخلاقية معيّنة، إلاّ أنّ سلوكها الغريزي مختلف تماماً عن سلوك الإنسان الذي يراقب القوانين الأخلاقية، من أجل استيعابها وتمثّلها في سلوكه.
ولكن على الرغم من وجود محدّدات أو قوانين للأخلاق، فإنّها قد تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن مرحلة زمنية إلى مرحلة أخرى، حتى ضمن المجتمع الواحد..وذلك وفقاً لطبيعة كلّ مجتمع والمراحل التطورّية التي مرّ بها، وأنتجت القيم الأخلاقية، بمعاييرها وسلوكاتها.. ويبقى المعيار الأساسي في الحكم على الأخلاق، هو مدى مساهمتها في تحقيق إنسانية الإنسان نحو سعادته الفردية والاجتماعية.
واستناداً إلى المفهومات السابقة، فإنّ طبيعة
الأخلاق تتحدّد في البعدين التاليين:
1- النموّ الأخلاقي والسلوك الأخلاقي:
يعدّ السلوك الأخلاقي
سلوكاً مكتسباً يتعلّمه الفرد من خلال التربية التي يتعرّض لها عبر مراحل نموّه
المتعاقبة. فقد وجد بعض الباحثين أنّ ثمّة
علاقة بين النمو الأخلاقي والسلوك الأخلاقي، وبالتالي وجود تطابق بين السلوك الأخلاقي
والحكم الأخلاقي الذي يعرّف بأنه: القدرة على صنع قرارات أخلاقية بالاعتماد على
مبادىء أخلاقية داخلية، والتصرّف وفق هذه القرارات.
والمبادىء الأخلاقية الداخلية، ما هي إلاّ تعميمات مكوّنة من سلسلة قرارات فردية تنبع من ذات الشخص. وهي إحدى ركائز النمو الأخلاقي، الذي يحمل في جوهره تطويراً لمجموعة من المبادىء والمعتقدات التي يتمسّك بها الفرد لا شعورياً، ويتبنّاها كأسلوب في حياته.
فالقرار الذي يتّخذه الفرد استناداً إلى
مبادئه ومعتقداته الأخلاقية ويعتقد بأنّه صائب، يسلك بموجبه سلوكاً أخلاقياً
مناسباً تجاه أي موقف أخلاقي يتعرّض له.
2- النموّ الأخلاقي والنموّ الاجتماعي:
ثمّة علاقة وثيقة بين النمو الأخلاقي والنمو
الاجتماعي، بالنظر إلى أنّ الإنسان عضو في مجتمع، وعليه أن يكتسب قيم هذه المجتمع
ويعمل بها لكي يكون متكيّفاً مع ذاته ومع مجتمعه، ولا سيّما من الناحية الأخلاقية
والوجدانية.
ولذلك يرتبط النموّ الأخلاقي وتطوّره بمدى
علاقة الفرد بالمعايير الاجتماعية والقيم السائدة، كما يرتبط بعلاقة الفرد
بالشعائر والطقوس، وبمدى استجابته لمستويات الخير والشرّ.. ويعتمد إدراك الفرد
طبيعة الأفراد الآخرين وتقديره وموّدته لهم، وأمانته على ما يؤتمن، وولائه لمن
ينتمي إليه، على مدى تعاطفه مع جماعته وإيمانه بمبادئه. وكما قال الحكيم / ابن
المقفّع /: " مَن جهل قدر نفسه، فهو بقدر غيره أجهل.."
وهنا تبدو أهمية القيم الخُلُقيّة في التطوّر
الاجتماعي (للفرد والجماعة) ولمستقبل الحضارة الإنسانية، في عصر تتزاحم فيه
الحقائق العلمية/ المادية، وتنافس القيم والمثل الإنسانية العليا التي تسمو بالعقل
والأخلاق.
ثانياً- أهميّة الأخلاق للإنسان :
الأخلاق ليست معلومات وقيم مجرّدة فحسب،
وإنّما هي ممارسات يومية يجسدها الكائن البشري في حياته اليومية، من خلال تعامله
مع أبناء مجتمعه والتفاعل معهم، في إطار منظومة القيم الأخلاقية السائدة في
المجتمع.
إنّ الإنسان كائن أخلاقي، والخلق خاص به دون
الكائنات الحيّة الأخرى؛ فهو الوحيد الذي يستطيع أن ينظر نظرة عقلانية إلى ما
يصادفه من إمكانيات في الحياة، ليختار منها ما يحقّق أهدافاً معيّنة.. والفعل
الخلقي هو فعل إرادي اختياري، يقوم على التفكير والاختيار بين بدائل لتحقيق غايات
معيّنة. ولذلك تعتبر الأخلاق قوّة دافعة للسلوك والعمل؛ فالقيم الأخلاقية المرغوب
فيها متى تأصّلت في نفس الفرد، فإنّه يسعى دائباً إلى العمل على تحقيقها.
ولذلك فإنّ الإنسان لو تلقّى الأخلاق واطلع
على قواعد ممارستها، ولكنّه لم يترجم هذه القواعد إلى سلوكات (فردية وجماعية) يظهر
بها حقوقه وحقوق الآخرين، فإنّه سيفتقر إلى القدرة على مواصلة الحياة الإيجابية
معهم، وسيفشل بالتالي من أن يحيا بينهم حياة سعيدة وسليمة بوجه عام. وبلداً من
تحقيق هذا التفاعل البنّاء، فقد يصبح أحياناً شخصاً مرفوضاً وغير مرغوب فيه من قبل
أعضاء المجتمع.
وإذا كانت هذه هي حال الشخص البالغ، فلا شكّ
في أنّها ستكون أكثر تأثيراً عند الطفل، فيما لو لقّن الأخلاق بمعانيها وضوابطها
بشكل صحيح، ولم يعلّم كيف يمارس هذه الأخلاق تجاه ذاته وتجاه الآخرين من حوله،
وبحسب المرحلة العمرية التي يمرّ بها، ويشعر بالتالي بأنّ الأخلاق هي من الحاجات
الأساسية الضرورية للإنسان من أجل حياة اجتماعية راقية.
أين يكمن جوهر المشاعر الأخلاقية إذن؟ وما هو
الشيء الذي يجعلها قاعدة أساسية لتحفيز السلوك السليم عند الطفل؟ إنّ المشاعر
الأخلاقية تعبّر عن موقف الإنسان من الناس الآخرين، ومن المجتمع والمهمّات
الاجتماعية التي يكلّف بها، ومن شخصيّته بالذات. وانطلاقاً من المبادىء الأخلاقية
المميّزة لشخصيته، يقوم الإنسان بتقييم سلوكه الذاتي وتصرّفات الناس الآخرين
وصفاتهم الأخلاقية، ويعيش هذه الأحاسيس أو
تلك بمقدار ما تتناسب هذه التصرّفات والصفات مع المعايير الأخلاقية السائدة؛
فالتقدير الإيجابي لتصرّفات الإنسان من قبل المحيطين به، يثير لديه مشاعر الرضى
والسرور، أمّا التقدير السلبي فيسبّب له المعاناة والخجل وتأنيب
الضمير..
ثمّة أفراد كثيرون في المجتمع لا يتمتّعون
بالأخلاق الفاضلة؛ فأغلب المنحرفين في المجتمع (اجتماعياً ونفسياً وسلوكياً) هم من
الأفراد الذين لم ينالوا القدر الكافي من الأخلاق في أثناء تنشئتهم الاجتماعية،
كما أنّ المفسدين في المجتمع الذين يمتهنون السطو والاعتداء على الحرمات وعلى
الكرامات الإنسانية، هم أيضاً من الأفراد الذين افتقدوا التربية الأخلاقية
السليمة. وذلك لأنّ الأخلاق الشريرة طغت على الأخلاق الخيّرة، فأفسدت أفكارهم
وضمائرهم وأفقدت بالتالي حياتهم من أي معنى أخلاقي / اجتماعي، يعبّر عن الجوهر
الحقيقي للإنسان عندهم.
واستناداً إلى المعطيات السابقة، فإنّ الشخص الأخلاقي يتّصف بصفات أربع هي: (الاستقلالية الإيجابية، والعقلانية، والإيثار/ الغيرية، والشعور بالمسؤولية)، والسبب في وجوب هذه الصفات هو أنّ كلّ عمل يتمّ تحت الإكراه، لا يسمّى عملاً أخلاقياً، ولكن كلّ عمل مستقلّ يحتاج إلى أن يخضع لمتطلبات العقل. وبما أنّ كلّ عمل أو قرار يتخذه الفرد يؤثّر في حياة الآخرين، فيجب أن يراعي سعادتهم ويؤثّر في نفعهم.
وهذا يعني أنّ كلّ
عمل أخلاقي يراد أو قرار أخلاقي يتّخذ، في إطار الاستقلالية والعقلانية، سيبقى عقيماً وعديم الجدوى، ما لم
ينفّذ ويمارس بصورته الأخلاقية السليمة.
إنّ معتقدات المرء الأخلاقية تتحكّم بسلوكه،
فهي تضع حدّاً لرغباته التي تدفعه للتصرّف غير اللائق، والمخالف للمعايير
الاجتماعية، أو بالعكس، تحفزه على القيام بأعمال حميدة وسامية وذات نفع عام.. وهذا
يتطلّب منه أن يعرف أنّ الضمير والواجب والشرف وعزّة النفس، هي من المفاهيم التي
تميّز العلاقات الأخلاقية المتبادلة بين الناس، وأنّ الصفات الأخلاقية-بشكل عام-
لها دور كبير في الاضطلاع بمهمّة تنظيم سلوك الإنسان والتحكّم به، ولذلك تأخذ
المشاعر الأخلاقية أهمية بالغة في حياة الإنسان.
وانطلاقاً من هذه الأهمية، يمكن تصنيف المشاعر الأخلاقية وفق المجموعات الثلاث التالية:
1-المجموعة الأولى: وتشمل المشاعر التي تعكس نظرتنا
وعلاقتنا بالظروف الاجتماعية التي نعيش ضمنها. مثل: شعور حبّ الوطن، والمشاعر
الإنسانية، وعدم التمييز بين الأفراد والجماعات والأمم.
2-المجموعة الثانية: تضمّ المشاعر التي تبرز في تعاملنا
مع الناس الآخرين ومع الجماعة التي نعاشرها ونعيش معها.. مثل: مشاعر الزمالة
والواجب، والتفاهم المتبادل، والمسؤولية والصداقة، والعطف..
3-المجموعة الثالثة: تتضمّن المشاعر المعبّرة عن
نظرتنا لأنفسنا وتصرّفاتنا.. مثل: الضمير والشرف وعزّة النفس والكرامة والكبرياء..
فالمشاعر الأخلاقية، هي نفوذ المرء إلى أعماق طبيعة الجماعة التي
يحيا ضمنها، وتعكس موقفه تجاه واجباته الاجتماعية، كما تشمل شعوره الوطني ونشاطه
كمواطن في المجتمع.. أي أنّ المضمون الحقيقي للمشاعر الأخلاقية، يتحدّد بتلك
التقديرات والمبادىء الأخلاقية المميّزة للعلاقات الاجتماعية الحقيقيّة.. وهذه
المشاعر المعقّدة والمتداخلة فيما بينها، تتشكّل جميعها أول ما تتشكّل، في البيئة
الأسرية.
وإذا كانت الأخلاق تكتسب بالتربية، فإنّ الأطفال بحاجة إلى الأخلاق باعتبارها ذات أبعاد ذاتية (فطرية) وإنسانية، وهي في الوقت ذاته ضرورة اجتماعية، وهذا أيضاً من طبيعة الإنسان الذي يوصف بأنّه (كائن اجتماعي بطبعه).
ولذلك لا بدّ من الاستفادة من هذه الحاجة، بالعمل على توجيه الطفل نحو
الأعمال الحسنة، ونحو الفضائل الأخلاقية / الإنسانية، ووفق المراحل النمائية /
التربوية المتدرّجة.
ثالثا- مراحل النموّ الأخلاقي عند الطفل:
إنّ السلوك الأخلاقي ليس من الصفات الغريزية
أو الوراثية التي يحملها الكائن البشري، وهو يأتي إلى الحياة الدنيا. فالطفل
الوليد لا يأتي إلى هذا العالم ومعه فكرة واضحة / ناضجة عمّا هو صواب وعمّا هو
خطأ. وهذا يعني أن الطفل الرضيع ليس عنده غريزة للسلوك الخُلقي، الأمر الذي يجعلنا
نفكّر في السلوك الخلُقي عند الكبار، ومستويات هذا السلوك، كيف تكوّن؟ وكيف نما
وأصبح جزءاً من شخصيّة الإنسان / الفرد؟ طالما أنّه لا يوجد أي نوع من الأخلاق عند
الطفل الرضيع، أو حتى عن الطفل الصغير.
ولعلّ المراحل التالية هي المراحل الأكثر
شيوعاً في تكوّن الأخلاق ونموّها:
1- مرحلة اللذّة والألم:
يربط الطفل الرضيع في هذه المرحلة، بين الفعل
وما يحقّق له من اللذّة أو الألم؛ فكلّ ما هو سار ومريح للطفل أو مطمئن، هو حسن
بالنسبة له، وكلّ ما يشعره بالألم أو الضيق أو التهديد، هو غير مريح، بل
وسيّء. فالجوع والألم والخوف من الضوضاء
الفجائية، كلّها من الأمور السيّئة عند الطفل، أمّا تقديم الطعام له وإشباعه،
وترفيهه وتدليله، فهي من الأمور الحسنة عنده، وبذلك يقرن الطفل الأمور الحسنة
بالشعور باللذّة، والأمور السيّئة بالشعور بالألم.
ولذلك يقول / سبنسر /: إنّ السلوك السيّء هو
السلوك الذي تترتّب عليه نتائج سيّئة بالنسبة للطفل أو لمن يحيطون به، أو لكلا
الطرفين معاً.. وهذه النتائج هي التي تفسّر تحريم هذا السلوك. فالطفل الذي يشعر
بضرر هذه النتائج، يعرف إذن لماذا يتحتّم عليه أن يبتعد عن هذا السلوك، وإذا كان
الضرر يصيبه هو بصورة مباشرة، فإنّ الألم الذي يحسّ به سرعان ما ينبّهه إلى خطئه.
أما إذا أصاب الضرر المحيطين به، فإنّه يلاحظ ردّات أفعالهم، وهي ليست أقلّ دلالة
ممّا قد يصيبه..
فنظام اللذّة والألم كتفسير للسلوك لا يمكن
الاستغناء عنه، حتى في أشدّ المعايير الخُلقية تعقيداً؛ فقد يكون من المؤلم
أحياناً، أن يخضع المرء نفسه لقوانين الشرف والواجب والشجاعة، ولكنّ الإنسان يشعر
بألم أشدّ لو لم يخضع نفسه لهذه المعايير. وقانون اللذّة والألم عند الطفل، شأنه
شأن قانون اللذّة والألم عند الكبير، يستهدف في نهاية الأمر تكوين سلوك خلقي، أي
يستهدف خلق حياة تتّصف بالسعادة والإبداع.
2- مرحلة الثواب والعقاب:
ثمّة
الكثير من الآباء والأمهات الذين يشعرون بأنّ الطريقة الوحيدة لتوجيه أبنائهم نحو
السلوك الخلقي القويم، هي أن يقرنوا العقاب الصارم بالأشياء " السيّئة "
التي يفعلها الطفل؛ فإذا زاد ألم العقاب على السرور الناتج عن عمل الطفل، فإنّه
سرعان ما يتعلّم تجنّب السلوك السيّء. ولا يعني العقاب هنا الضرب والقسوة، وإنّما
يعني إعاقة السلوك الشاذ، وذلك بتحويل طاقته إلى سلوك مرضٍ..كما أنّ للتشجيع أثره
القوي في تكوين المستويات الخلقية المختلفة.
ولكن العقاب – وإن كان ضرورياً في حالات
خاصة جدّاً- فإنّ له مساوىء تربوية كثيرة؛ فقد يخلق في الطفل قلقاً شديداً يجعل نموّه الخلقي في المستقبل،
أمراً صعباً. فالطريقة الأكثر إيجابية وإنتاجاً تربوياً، هي أن نهتمّ بالثواب
أكثر من الاهتمام بالعقاب. فإذا فهم الكبير أنواع الحاجات التي يرتضيها الطفل
بسلوكه الذي نسميه سيئاً، فإنّه يستطيع أن يبتكر نوعاً معوّضاً من النشاط يقدّمه
للطفل.
إنّ ألوان الثواب والعقاب من العوامل البارزة
في التقّدم الخلقي، فالشخص الكبير يشتقّ من سلوكه الخلقي، جزاءه ومكافأته وثوابه،
ولكنّ العقاب بصورته الاجتماعية والقانونية، لا يزال في يدنا نستخدمه لنجعل الشخص
الكبير غير الناضج، يسلك سلوكاً يتّفق ومستويات السلوك المقبولة في المجتمع. ولذلك
تعدّ المكافآت عاملاّ أساسياً، لإرضاء المشاعر العاطفية طوال مدّة الطفولة
والمراهقة، من أجل تقدّم الطفل في المستويات الخلقية.
وهذا يرتبط إلى حدّ بعيد بمدى تأثير الأشخاص على سلوك الطفل، ومدى استجاباته الإيجابية نحوهم. فالسلطة الأخلاقية كما يفهمها الطفل، وكما يفهما الشخص البالغ، هي فكرة يحدّدها الرأي العام، وتستمدّ كلّ قوّتها من ذلك الرأي العام.
ولذلك فإنّ الإحساس بالالتزام الخلقي
-كما ترى نظرية نشوء الإحساس بالالتزامات الخلقية -لا يظهر عند الطفل، إلاّ حين
يقبل أمراً صادراً عن شخص يحترمه.
إنّ تشوّه التصوّرات الأخلاقية عند الأطفال، غير مخيف بذاته، فمفاهيم الطفل عن(الخير والشر) مرنة جدّاً، ويستطيع أن يغيّر تقييمه لهذا الحدث أو ذاك بسرعة، تحت تأثير الكبار، ولا سيّما إذا كانوا عزيزين على قلب الطفل. ولكن ما يبقى في ذاكرته من دون شك، حتى من غير أن يعي ذلك، هو التصوّر عن عدم ثبات المعايير الأخلاقية وتوقيتها.
وهذا يتطلّب من الكبار عدم خلق التناقضات في الاتجاهات التقييميّة، التي تشكّل
التصوّرات عن الطابع الثنائي، أو المزدوج للأخلاق ولقواعد السلوك المتعلّقة بها.
3-
مرحلة بداية الضمير:
ل نحو الأشخاص، يبدأ منذ اللحظة التي تنطبع فيها القواعد الأخلاقية، أي عندما تأخذ استجابات الطفل صفة قيمية في إطار المعايير الأخلاقية السائدة.
فقبل السنة الخامسة، قد تكون هذه المفاهيم –
بالنسبة للطفل - مرتبطة بما يأمر به الوالدان أو ينهيان عنه، ولكن بعد الخامسة
يبدأ أفق الطفل بالاتساع، ويبدأ يرى اختلاف أفكار الناس من حوله فيما يتعلّق
بالصواب والخطأ، ويترافق ذلك مع نموّ قدرة الطفل على التفكير والمحاكمة العقلية،
حيث يرى الكثير من الحوادث والمواقف،
ويبدأ بإصدار الأحكام الموضوعية على الآخرين، ويكوّن نظرته الخاصة عن
الحياة والكون والناس، حتى وإن بقي تحت تأثير الرغبة في الحصول على تقدير الآخرين
ليقولوا إنّه: " ولد جيّد أو ولد حسن ".
وما أن يصل إلى سنّ الشباب، حتى يكتمل تشكّل
الجوانب الأخلاقية الواعية للشخصيّة، والتي تشمل المعتقدات الأخلاقية والمشاعر
الأخلاقية وأشكال السلوك الموافقة لها. فالوعي الأخلاقي، حسب تعريف الباحثين في
الأخلاق، هو نوع خاص من التفكير الذي يعتمد ليس على مقولات منفصلة، وإنّما يعتمد
على تشكيلات فكرية متكاملة توحّد في ذاته – بصورة وثيقة- ما بين الملاءمة
والانفعالية. فالوعي الأخلاقي الذي يعتبر أرقى شكل للتطوّر الأخلاقي للشخصيّة، لا
ينمو من العدم، وإنّما تتشكّل عناصره على مدى المراحل النمائية
كلّها.
فتربية الجيل المراهق يجب أن تنحصر تحديداً في
مساعدة كلّ فرد على أن يرتفع إلى ذلك المستوى المدني (التعليمي والأخلاقي)، لأنّ
مهمّات المجتمع الكبرى، المهمّات التاريخية الثقافية، لا تبدو بالنسبة لهم شيئاً
ما عالياً لا يمكن بلوغه، وإنّما قضية واضحة وصريحة، والمسؤولية مضاعفة أمام
الإننسان؛ إنّها قضيّة ذهنه الخاص وضميره أيضاً.
إنّه ليس بالأمر السهل تعليم الطفل السلوك
الأخلاقي الحسن، فثمّة والدون يعتقدون بأنّ أفضل طريقة لتعليم الأخلاق، هي أن نقول
للطفل ما عليه أن يفعل أو ما لا يفعل، وأن نهدّده إن لم يلتزم بذلك. ولكن يبدو أنّ
أسلوب التخويف هذا لا يؤثّر كثيراً، لأنّ الطفل في المستقبل يسعى لكبت الأمر
وإخفائه تجنّباً للعقاب، وقد يلجأ إلى العصيان والثورة على قواعد والديه.
وعلى الرغم من التقسيم الدراسي لهذه المراحل،
فهي متداخلة ومتكاملة فيما بينها في إطار النمو الخلقي العام عند الطفل، ولا سيّما
الفترة الواقعة ما بين السنة الخامسة والحادية عشرة، لأنّها تعدّ فترة هامة في
النموّ الخلقي عند الطفل / الناشىء، حيث يصبح أكثر وضوحاً فيما يتعلّمه قبل هذه
السنوات من قضايا " الخطأ والصواب، الحلال والحرام، الخير والشرّ "..
إنّ دور الوالدين في التنمية الخلقية، يتجلّى في مساعدة الطفل / الناشىء على الشعور بضرورة الاهتمام بالآخرين بعيداً عن الأنانية، والشعور بالثقة وضبط النفس أمام المغريات الحياتية غير المشروع. ومع الممارسة والتعزيز يستطيع أن يرى الحكمة في مثل هذا السلوك أو ذاك، فيميّز بين الخير والشرّ، ويجني ثمار أفعاله الحسنة.
رابعاً- خصائص النموّ الأخلاقي عند الطفل:
ثمّة علاقة وثيقة بين النموّ الأخلاقي والتفكير الأخلاقي، حيث يتدرّج النموّ الأخلاقي
وفق مراحل متتابعة، شأنه في ذلك شأن جوانب النموّ الأخرى عند الطفل / الفرد. فكلّ
مرحلة تبنى على سابقتها وترتبط بالمرحلة التي تليها، في إطار التكامل حتى سنّ
النضج والبلوغ.ومع أنّ هذه المراحل التتابعية متشابهة – إلى حدّ بعيد- بين جميع
الأفراد، فقد يكون انتقال الفرد بين مرحلة وأخرى، بطيئاً أو سريعاً، تبعاً لتكوينه
الشخصي والمثيرات التربوية التي يتعرّض لها.
وعلى الرغم من ذلك، فثمّة خصائص عامة للنمّو الأخلاقي عند الأطفال، هي على النحو التالي:
1- التدرّج والتتابع: أي أنّ النمو الأخلاقي يحدث تدريجياً وليس بصورة مفاجئة؛ أي أنّه يمّر لدى جميع الأطفال / الأفراد، وفق نظام متتابع من المراحل المتتالية.
2- التداخل: أي أن مراحل النموّ الأخلاقي، ليست منفصلة
بعضها عن بعض، أي بينها فواصل قاطعة وحاسمة، وإنّما هي مراحل متداخلة فيما بينها؛
فقد تظلّ بعض رواسب الطفولة حتى سنّ المراهقة، وقد تظلّ بعض سمات المراهقة حتى سنّ
الشباب والبلوغ.
3- النسبيّة: وتعني النسبيّة هنا، أنّ القيمة الأخلاقية تختلف عند الشخص الواحد، تبعاً لحاجاته ورغباته وتربيته وظروفه.. كما تختلف من شخص إلى آخر. أي أنّ القيمة الأخلاقية تسير وفق مبدأ الفروق الفردية. ولكن قد يحدث نكوص وارتداد إلى مرحلة سابقة، إذا ما تعرّض الفرد لمشكلات اجتماعية أو صراعات نفسيّة.
4-انتقال النمو الخُلقي من الموضوعيّة إلى الذاتية: أو من الأخلاق المفروضة من الخارج إلى الأخلاق النابعة من الداخل، أو من الأخلاق المتمركزة حول الذات الأخلاقية خارجية المنشأ ـ إلى الأخلاقية التي يوجّهها الضمير والنابعة من الذات.
وانطلاقاً من هذه الخصائص، يرى / جان بياجه / أنّ هناك نوعين من الأخلاق: أخلاق خارجية المنشأ، وأخلاق داخلية المنشأ؛
- الأخلاق خارجية المنشأ: تقوم هذه الأخلاق على قسر الراشد الذي يمثّل السلطة، كالآباء والمربين، والاحترام من جانب واحد لهؤلاء الراشدين؛ فالأخلاق خارجية المنشأ تعني الخضوع لتوجيه الآخرين أو القواعد التي يضعونها، وهذا معناه أنّ القواعد الأخلاقية تنشأ أصلاً من خارج الطفل / الفرد، وتفرض عليه من بيئته.
-الأخلاق داخلية المنشأ: يبدأ هذا النوع من الأخلاق في الظهور من بداية السنة الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر، وذلك بعد أن يحدث ما بين الثامنة والحادية عشرة، انتقال من الأخلاق خارجية المنشأ إلى الأخلاق داخلية المنشأ، بناء على النضج المعرفي؛ فكلّما كبر الطفل تحرّر من سلطة الكبار ومن احترام الراشدين (أحادي الجانب)، وأصبح أكثر إحساساً بالعدالة واهتماماً بحقوق الآخرين، وبمبادىء المساواة في العلاقات الإنسانية، أي أنّ علاقاته تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون، ولذلك سميّت هذه المرحلة (بأخلاقيات التعاون).
وممّا يلاحظ أنّ هذه خصائص هذين النوعين من
الأخلاق، تنسجم مع مراحل النموّ الأخلاقي من جهة، ومع نموّ الحكم الأخلاقي من جهة
أخرى، حيث يرتبط مفهوم القيم الأخلاقية، بالسلوك الذي يترجمها ممارسة على أرض
الواقع.. أي أنّ التفكير الأخلاقي يرتبط بالسلوك الأخلاقي، وهذا يعبّر عن إدراك
الفرد أهميّة الفعل الأخلاقي الذي يقوم به، وتقويم نتائجه السلبية والإيجابية على
الفرد وعلى الناس المحيطين به.
خامساً- نموّ الحكم القيمي للأخلاق عند الطفل:
إنّ شعور الطفل بالقيم السائدة في المجتمع،
والالتزام بقواعدها وسلوكاتها، لا يمكن أن ينفصل عن الحياة الاجتماعية والأخلاقية
التي يعيشها، في أسرته وفي العالم المحيط به. فالطفل في مراحله الأولى، ينظر إلى
القواعد العامة على أنّها ذات أصل خارجي، وكلّما نما من النواحي (المعرفية
والاجتماعية والانفعالية) يتضاءل سلطان الكبار عليه ويصبح قادراً على أن يناقش
معهم بعض الموضوعات الخاصة والعامة، وبصورة تدريجية حيث تزداد لديه الفرص لاكتشاف
التباين بين آرائه وآراء الآخرين، حتى أنّ معظم الأطفال ما بين (12-14) سنة،
يستطيعون أن يدلوا بآرائهم وينقدوا كثيراً من القواعد الأخلاقية السائدة.
فعالم الأحكام القيميّة لدى الطفل، في المراحل العمرية المبكرة، عالم واسع وغير محدّد، وذلك بسبب حاجته إلى إطار مرجعي واضح من الخبرات؛ والطفل في بداية حياته، لا يكون لديه ضمير أو مقياس للقيم، فهو يسلك طرائق غير أخلاقية، لأنّه لا يستطيع أن يميّز بين ما هو صواب وما هو خطأ.. ثمّ ينمو أخلاقياً في ضوء علاقته بالآخرين من أسرته وجماعة أصدقائه، فيكافأ على الصواب، ويعاقب على الخطأ.
إنّ سنّ ما قبل المدرسة كما هو معروف، هو
مرحلة تشكّل التصوّرات الأخلاقية الأولى عن الخير والشرّ، والشرف والواجب
والضمير.. فإذا ما تأتّى للطفل منذ نعومة أظفاره أن يقوم بأعمال تخالف ضميره، وأن
يتأقلم أو يتكيّف مع المتطلّبات المتباينة للآخرين، فأين هي إذن الوصاية الأخلاقية
التي سيأخذها معه في المستقبل، في سنوات الفهم الممتاز لجوهر المعايير الاجتماعية؟ وهذا يؤكّد أهميّة الانطباعات الاجتماعية /
الأخلاقية التي يكوّنها الطفل، والتي لا يمكن أن تمحى آثارها في وعيه وفي مشاعره،
عبر المراحل اللاحقة.
ولهذا يمكن القول أنّه في الميدان الخلقي،
هناك تخلّف زمني بين التقويم المحسوس للطفل، وبين حكمه النظري (المجرّد) عن القيم؛
فالأخير هو إدراك تطوّري مناسب للأول،
ولذلك نجد أنّه في مثل هذه الحالات، تخلّف الناحية النظرية وراء الحكم الخلقي
العملي. ولا سيّما عند الطفل في مراحل عمره الأولى، حيث يصعب عليه الوصول إلى
مرحلة التوازن والانسجام الخلقي، إلاّ إذا تحرّر من الآراء المفروضة عليه، وبدأ
باستبدال المعايير الخارجية بمعايير مستمدّة من طبيعة الفعل نفسه، أي من شعوره
تجاه هذا الفعل.
وعلى هذا الأساس، ثمّة مستويات ثلاثة لنمو الحكم الأخلاقي عند الطفل، ويتضمّن كل مستوى مرحلتين أٍساسيتين، على النحو التالي:
1- المستوى قبل الخلقي: يتحدّد السلوك في هذا المستوى
بعوامل خارجية، ويشمل مرحلتين، تتسّم المرحلة الأولى بالتوجّه نحو الثواب والعقاب
والإحساس بالقوّة السامية، وتتّسم المرحلة الثانية، بتوجّه بدائي وسيلي، يتبع
اللذّة، وتحدّد الأفعال في هذه المرحلة كأنّها صواب، لترضي الذات والآخرين.
2- مستوى الخلقيّة التقليدية: ويتّسم هذه المستوى بصنع الأفعال الحسنة والمحافظة على النظام الاجتماعي، وله مرحلتان: المرحلة الأولى تتجسّد في المحافظة على العلاقات الطيّبة، وإرضاء الآخرين ومساعدتهم، واحترام السلطة والقانون والواجب. وتتجسّد المرحلة الثانية في المحافظة على الوضع القائم الذي تعدّ له القيمة الأخلاقية الأولية.
3- مستوى خلقية المبادىء التي تتقبّلها الذات: وتتجسّد في الخضوع للمعايير العامة والحقوق والواجبات. تتجلّى المرحلة الأولى فيها، بأخلاقية العقد والحقوق الفردية والقانون الاجتماعي، وتعرف المرحلة الثانية بمرحلة أخلاقية الضمير والمبادىء الفردية التي يتوجّه فيها الطفل بوجدانه الأخلاقي من خلال القواعد والمعايير القائمة.
إنّ تدرّج هذه المستويات الثلاثة، يشير إلى أنّ الطفل لن يصل إلى أي مستوى من هذه المستويات، من دون المرور بالمستويات والمراحل الأخرى، وبذلك يستطيع الوالدون والمربون توجيه نموّ الطفل الخلقي، والسير به من مستوى إلى المستوى الذي يليه، والكشف عمّا يسارع بالطفل للوصول إلى المستوى الخلقي المناسب.
إنّ هذا التقسيم المتدرّج لنمو الحكم الأخلاقي
عن الطفل، يوضح لنا أنّ المعنى الأخلاقي للقيمة يكون في مراحل الطفولة الأولى، غير
واضح وغير محدّد كما هي الحال عند الكبار، حتى أنّ الأطفال في مرحلة عمرية معيّنة،
يختلفون في نموّ الحسّ الأخلاقي لديهم؛ فبينما نرى بعض الأطفال يحاولون أن يترجموا
هذا الحسّ في سلوكاتهم، نرى بعضهم الآخر لا يحرز إلاّ نجاحاً بسيطاً في التوفيق
بين حسّه وسلوكه، فيلجأون –غالباً- إلى الإكثار من الأسئلة ليتعرّفوا حقيقة
سلوكهم، حسناً ً كان أو سيّئاً..!
ومن هذا المنطلق، فإنّ ثمّة أطفالاً يفهمون الكثير من المفاهيم الأخلاقية التي يستعملونها في السنوات الأولى من العمر، بصورة غير صحيحة وغير دقيقة. فهم يعرّفون الإنسان الشجاع على أنّه القوي، والإنسان الطيّب هو بالنسبة لهم، الشخص الجيّد والمرح والكريم، أمّا الشخص العادل فهو ذلك الإنسان النبيه واللطيف والرقيق.. ولا شكّ في أنّ صعوبة التمييز هذه، تعود إلى تداخل مجموعة من الظواهر الأخلاقيّة التي تكتنف مفهوم هذه القيمة أو تلك، ولا سيّما المفهومات المجرّدة التي يتداخل فيها كثير من الصفات (القيم) الأخلاقية، مثل: العدالة، الطيبة، الكرم، الحرية، وغيرها.
سادساً- عوامل النموّ الأخلاقي :
إن ّالقواعد الأخلاقية للقيم تنمو مع نموّ الطفل وتطوّر المستوى الاجتماعي لديه؛ فابن السنة السابعة يختلف عن ابن السنة الثانية عشرة، من ناحية الشعور بالقواعد الأخلاقيّة وتطبيقاتها. ففي سنّ الثانية عشرة يبدأ الطفل بإدراك طبيعة القيم وانعكاساتها الأخلاقية في سلوك الأفراد، حيث تبدو لديه ظاهرة التعميم الخلقي في علاقاته مع الآخرين، ولا سيّما مع أقرانه. وقد لاحظ / جان بياجه / في أثناء دراسته مفهوم العدالة عند الأطفال، أنّ الأطفال الصغار يميلون إلى الاعتقاد بأنّ الشخص الذي يحلّ به الأذى خلال مساهمته في عمل محرّم، إنّما يعاقب فعلاً وبصورة تلقائية.. أمّا الأطفال الكبار، فكانوا يعون أنّه من الممكن للمشارك في عمل محرّم، أن يتهرّب من العقاب
ومن أجل تحقيق نموّ أخلاقي متدرّج ومتكامل، فإنّ ثمّة عوامل أساسية لا بدّ من مراعاتها عند الأطفال، وهي:
1- توفير صحّة جسمية جيّدة لمقاومة الإغراء،
وللتحرّر من الشعور بالمرارة أو النقص، ومن وجود دوافع الانتقام.
2- توفير الأمان الانفعالي لإمكان الشعور بالحبّ
تجاه الآخرين، وتوفير وظيفة مناسبة ومنافذ للتعبير أو التصريف الانفعالي.
3- تدريب مستمرّ في التحكّم والضبط الذاتي،
للمساعدة في التخلّص من البواعث الطفلية التي قد تظهر بين الحين والآخر.
4- وجود أفق اجتماعي مستمرّ الاتساع، لتنمية
القدرة على اكتساب المعارف، وعلى التسامح والتعاطف، وعلى تنمية الرغبة الأصيلة
لتقدير حقوق الناس الآخرين وواجباتهم.
5- الطموح نحو الرغبة القوية في عمل الصواب، بحيث
يجد الطفل / الفرد الشعور بالرضا والسعادة نتيجة لعمل الصواب. أي فعل الخير
والابتعاد عن الشرّ.
وبناء على ما تقدّم، يمكن القول إنّ تكوين
المفهومات القيمية، من خلال الأحكام والمعايير التي تحدّد قيمتها، إيجاباً أو
سلباً، لا يمكن أن يتمّ عن طريق المعرفة التامة بها فحسب، بل لا بدّ من أن تولّد
هذه المفهومات إحساساً معيّناً لدى الطفل، وتثير مشاعره لاتخاذ موقف ما يتجلّى في
سلوكاته وتصرّفاته، التي يجب أن تنتمي في أساسها إلى هذا المفهوم المعياري أو ما
يسمّى بالحكم القيمي.
سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله
ردحذف