يعدّ الجانب الوجداني / الانفعالي من المكوّنات
الأساسية لشخصيّة الإنسان، إلى جانب المكوّنات الجسمية والعقلية والأخلاقية
والاجتماعية.. فالانفعالات تعطي حياة الإنسان قوّة ومعنى، لأنّ انفعالات الشخص
وثيقة الصلة بوجدانه، كما هي وثيقة الصلة بسعادته وشقائه.
ولذلك
يشكّل الانفعال عنصراً أساسياً في الجانب الوجداني من شخصيّة الفرد، وركناً هاماً في عملية النمو الشاملة
والمتكاملة، باعتباره أحد الأركان التي تبنى عليها الشخصية السوية، حيث يعمل على
تحديد المسار النمائي الصحيح لتلك الشخصية، بكل ما تحمله من عواطف ومشاعر وأفكار،
وما تمارسه من الأفعال وأنماط السلوك المختلفة.
أمّا الوجدان،
فيقع في قمّة النمو النفسي للفرد، ويعبّر عن نضجه واكتماله حيث يتجاوز التكوين
الفكري والخلقي إلى التكوين الروحي، من خلال التربية التي تزوّد الإنسان بنظرة
شاملة عن الوجود الذي يعدّ هو نفسه جزءاً منه.. ولا يمكن للتربية الانفعالية /
الوجدانية أن تبلغ مراميها الحقيقية إلاّ إذا
عملت على رفع مستوى الوعي (الذاتي والاجتماعي) عند الشخص، بحيث يشعر بحريته
التي تمهّد له الطريق إلى الترتيبات الفكرية والخلقية، تكشف له الفضائل والمواقف العقلانية التي
يتوجّب عليه اتخاذها تجاه القضايا الحياتية المختلفة.
ولذلك فإن
من مزايا الوجدان أنّه يقدّم الأجوبة الملائمة لاهتمامات الإنسان والمشكلات التي
يتعرّض لها، في أجواء هادئة من الاستقرار النفسي والاجتماعي، وهنا يكمن الهدف
التربوي الأساسي في بناء التركيب الواعي لانفعالات الأجيال وعواطفها، وتنمية شعور
الممارسة الانفعالية / الوجدانية الإيجابية، التي تتمّ بالتدريج من خلال التمرّس
بالشعور الفكري الحقيقي، والتمرّس بالشعور الأخلاقي العملي، وذلك كلّه يأتي
تتويجاً للنمو النفسي السليم وبناء الشخصيّة المتوازنة.
فالإنسان
كائن انفعالي بطبعه، كما هو كائن اجتماعي؛ فالفرح والحزن، والأمل والخيبة، والحب
والكراهية، والتفاؤل واليأس.. كلّها مشاعر انفعالية / وجدانية يعيشها الإنسان
ويعاني منها بحسب المواقف التي يتعرّض لها. ولا شكّ في أنّ الحياة ستكون جافة،
مفتقرة إلى المعنى الحقيقي للإنسان، لولا تلك المشاعر الانفعالية، بإيجابياتها
وسلبياتها، التي تضيف اللون والطعم إلى الحياة، كما تضيف اللذّة والإثارة والألم
إلى حياتنا اليومية لتجعلها في حركة مستمرّة.
أولاً- معنى
الانفعال وطبيعته :
شغلت مسألة
الانفعالات العديد ممّن اهتمّوا بدراسة الشخصيّة الإنسانية، ولا سيّما علماء النفس
والفيزيولوجيا والتربية، من حيث مكوّنات هذه الشخصيّة ودوافعها، ومحرّكات سلوكها
ومواقفها. ممّا أدّى إلى اجتهادات كثيرة في تعريف الانفعال وتبيان طبيعته.
فقد عرّف
/ ستانلي / الانفعال من الناحية النفسيّة بأنّه: الدعامة الأولى التي تقوم عليها
الطاقة النفسيّة التي تنشؤها وتطوّرها.. بينما عرّف / مكدوجل / الانفعال من
الناحية الجسدية على أنّه: إدراك للإحساسات البدنية العضوية.
وعرّف
الانفعال من خلال علاقته بالحاجة على أنّه: الأثر النفسي الذي يحدثه إشباع حاجات
الفرد أو حرمانها؛ وهو ينشأ نتيجة لإثارة الشخص بأي حدث سواء كان من خارجه أو من
داخله، يحيث يؤذيه، أي يهدّده في جسمه أو في نفسه. وهذا يتّفق
–إلى حدّ ما -مع التعريف الذي يقول بأنّ الانفعال: حالة إثارة سارة أو غير سارة،
تحدث للكائن الحي نتيجة موقف يتضمّن صراعاً أو توتّراً..
كما عرّف
الانفعال من خلال تأثيره في أبعاد الشخصيّة، على أنّه: حالات داخلية تتّصف بجوانب
معرفية خاصة، وإحساسات وردود أفعال فيزيولوجية، وسلوك تعبيري معيّن.. وهي تنزع
للظهور فجأة يصعب التحكّم بها.. وهنا يمكن التمييز في
الانفعالات بين صدمة انفعالية آنية، وبين اتجاه انغعالي أكثر ديمومة وانتظاماً،
وهو الأشدّ تأثيراً في سلوك الإنسان. والفارق بين الصدمة الانفعالية والاتجاه
الانفعالي، هو فارق كمّي يحدّد مقدار الشحنة الانفعالية، حيث يكمن الاتجاه
الانفعالي وراء كلّ نشاط انفعالي مهما كان مظهره، ويحتّل مكانة هامة في التكوين
المزاجي للشخصيّة باعتباره عاملاً مشتركاً بين الانفعالات التي تصدر عن الإنسان،
بقطع النظر عن شكل هذه الانفعالات ومظاهرها.
إن تلوين
الكلمات بطبقات مختلفة من النبرات الصوتية، لا يستخدم كوسيلة للتعبير عن الحالة الانفعالية فحسب، بل
يساعد أيضاً في التأثير على الآخرين، ويمكن أن يصبح أداة لتقدير الأحداث التي تجري
في الواقع المحيط.. والكلمات التي تخرج من الفم بنبرة مناسبة للموقف، تكون أكثر
شدّة في التأثير على الإنسان كونها تولّد في داخله أفكاراً مطابقة وصدى انفعالياً
قوياً. فالتلوين الانفعالي يمكّن من التعبير بكلمات واحدة عن حالات مختلفة من الشك
والسرور والاستهزاء البالغ، والاعجاب والاحتقار.
وإذا كانت
اللهجة الانفعالية هي بمنزلة التلوين الانفعالي لأحاسيسنا ومشاعرنا، فإنّ
الانفعال، على عكس اللهجة الانفعالية، هو ظاهرة نفسيّة أكثر تعقيداً، فهو يولد في
حالة محدّدة ويحمل مضموناً مميّزاً، ويرافق بردود فعل تعبيرية موافقة.. وهو
بالتالي معاناة مباشرة تتولّد في حالة معيّنة يعبّر الإنسان من خلالها عن موقفه في
هذه الحالة. وبهذا المعنى يكون الانفعال حالة نفسية ذات
صبغة وجدانية قوية، مصحوبة بتغيّرات فسيولوجية سريعة، وحركات تعبيرية متنوّعة،
غالباً ما تكون واضحة وعنيفة، تبعاً للموقف الذي أثار الانفعال، ولذلك فإنّ الشعور
الانفعالي / الوجداني يهدأ مع زوال مثيره..
واستناداً
إلى ما تقدّم، يمكن القول: إنّ الانفعالات هي حالات وجدانية داخلية، تحدث
للفرد نتيجة مواقف مثيرة، إيجابية أو سلبية، ثتير لديه إحساسات تتوافق مع طبيعة
الموقف المثار، وتجعله يتّخذ ردود أفعال بتعبيرات عامة، معرفية وفيزيولوجية
وسلوكية، قد تظهر فجأة وبدرجة عالية يصعب ضبطها، ثمّ تأخذ في الضعف والخمود ريثما
تتلاشى.
وانطلاقاً من هذه التعريف الشمولي، يمكن تحديد طبيعة الانفعال بالصفات التالية:
1- إنّه حالة تغيّر مفاجىء،
تشمل الفرد كلّه، ولا تتيح له الفرصة للتكيّف الآني مع الموقف الطارىء.
2- إنّه بطبيعته ظاهرة نفسيّة
أو حالة شعورية، يحسّ بها الفرد ويستطيع وصفها، وهي عادة ما تكون قوية مصحوبة
باضطرابات نفسية.
3- يكون للانفعال في بعض
الحالات، مظهر داخلي عضوي يعمل على تنشيط الكيان العضوي للكائن الحي، وتجعله في
حالة تهيؤ لسلوك ما. أي أنّ الحالة الانفعالية (الشعور الانفعالي) أولاً، ومن ثمّ
تلي التغيّرات الفيزيولوجية (العضوية).
إنّ الانفعالات تظهر
بمجرّد ولادة الطفل، وترتبط بالدوافع ارتباطاً وثيقاً؛ فالأطفال الصغار يبكون
ويبدو عليهم القلق والانزعاج عندما تنشأ لديهم حاجة ما مثل الجوع. كما تنبعث ردود
أفعال موجبة مشابهة للسرور عند إشباع حاجات الأطفال. ويعتقد علماء النفس أن تلك
الاستجابة توضح بداية التقمّص الوجداني، أو ما يسمّى " التعاطف " وهو
القدرة على فهم مشاعر الآخرين لمعايشتهم مباشرة. ويعمل كثير من ردود الأفعال
الانفعالية المبكرة، كرسائل تحسّن من فرص الطفل للبقاء على قيد الحياة. ومنها على
سبيل المثال: احتمال أن يستدعي بكاء الطفل أحد الوالدين لنجدة الطفل ممّا يعانيه،
وجلب الراحة له والهدوء.
ولا بدّ
من الإشارة إلى أنّ ثمّة فروقاً بين الأفراد في الاستجابات الفيزيولوجية تجاه
انفعالات بعينها؛ فقد يختلف الشعور بالقلق والغضب والسعادة من شخص إلى آخر، حيث
أنّ الناس يختلفون بصورة ملحوظة في كلّ نوع من أنواع ردود أفعالهم الفيزيولوجية
وقوّتها تجاه الانفعالات المختلفة، وذلك تبعاً لشدّة المثير ومدى استعداد الشخصيّة
للتعامل معه.. وهذا كلّه يكتسبه الفرد من خلال التربية التي يتعرّض لها.
أمّا
الوجدان،
فقد عُرِّف في قاموس (التربية وعلم النفس) بأنّه يعني التعاطف، أي المشاركة
الوجدانية أو تبادل المشاعر مع الآخرين. وجاء في (المعجم الوسيط) أنّ الوجدان يطلق
على: "كلّ إحساس أولي باللذة أوالألم، وهو ضرب من الحالات النفسيّة من حيث
تأثّرها باللذة أو بالألم، في مقابل حالات أخرى تمتاز بالإدراك والمعرفة ".
فالوجدان إذن هو الشعور بالخير والشرّ، ومن يأخذ بالخير يكون وجدانياً، ومن يأخذ
بالشرّ يكون عديم الوجدان – كما يقال -
وبذلك يكون الوجدان حالة انفعالية / نفسيّة تعبّر عن شعور معيّن يعاني منه
الشخص تجاه ما يتعرّض له من مثيرات ومواقف حياتية مختلفة.
واستناداً
إلى ما تقدّم، فإنّ الوجدان يمتاز بالضوابط التالية:
1- يفسح المجال للإنسان لكي يحكم على سلوكه، ويختار
بين الخير والشرّ.
2- يعمل على تقوية إرادة الشخص
ورفع مستوى أخلاقه، وذلك من خلال توفر شروط التربية المناسبة، وتوافر القدوة
الصالحة، بحيث يتعلّم بالتقليد والمحاكاة.
3- يشكّل الوجدان علاقة معقّدة
بين الأنا التي تصدر الأوامر والتعاليم، وبين الأنا التي تخضع لهذه الأوامر
المقيذة بتلك التعاليم.. وهذا ما تنشأ عنه مواقف القبول أو الرفض تبعاً لقوّة
تأثيره، ومدى قدرة الشخص على مواجهته.
4- بما أنّ الوجدان يمثّل علاقة
معقّدة بين حالتي الأنا، فقد غدا مشكلة نفسية بطابع فلسفي، أثارت اهتمام الكثير من
الفلاسفة والمفكّرين، والعلماء، الذين تساءلوا عن سرّ الوجدان وأبعاده الانفعالية
وتأثيراته النفسية والاجتماعية، وتمّ التركيز على بعض تقديرات الوجدان الصالحة
وغير الصالحة.
وإذا كان
دور العاطفة كبيراً ومؤثّراً في تربية الشخصيّة وتقويتها، فإنّ الوجدان كشعور
بالسرور أو الألم، يشكلّ القوّة التي تكوّن العواطف وتقوّيها وتغذّيها وتربيها، وتوّجهها
في الاتجاه الإيجابي السليم، وذلك بالنظر للأسباب (المادية والمعنوية) المثيرة له،
ووجوده كقوّة سابقة للتفكير والسلوك.. فالوجدان أسرع من التفكير في إيحائه بالحركة
المطلوبة، وهو القوّة الفعّالة التي تدفع الإنسان إلى العمل والمبادرة الذاتية،
وهو بالتالي الرقيب الواعي لسلوكات الشخص وضبطها.
ثانياً- الاتجاهات العامة للنمو الانفعالي
يتبع
النموّ الانفعالي سلسلة متدرّجة، شأنه في ذلك شأن نواحي النمو الأخرى (الجسمية
والعقلية والنفسية والاجتماعية) عند بني الإنسان، حتى بلوغ النضج والرشد.. وهناك
اتجاهات عامة في إيقاعات هذا النموّ يمكن تتبّعها وفقاً للتغيّرات التي ترافقها،
سواء في المنبّهات والمثيرات أو في الاستجابات والسلوكات، وذلك بحسب المراحل
العمرية الأساسية المعروفة.
1- في مرحلة الطفولة المبكرة:
تشمل هذه المرحلة فترة
ما قبل المدرسة، أي من الولادة وحتى السنة السادسة؛ وأهمّ ما يميّز هذه المرحلة من
الناحية الانفعالية، هو شدّة التأثر وعدم الاستقرار والغضب إلى حدّ التشنّج،
والخوف إلى حدّ الذعر، والحزن إلى حدّ الاكتئاب، والفرح إلى حدّ الابتهاج، ويترافق
ذلك مع التذبذب السريع بين هذه الحالات.. وهذه المظاهر من الأمور العادية التي
يمكن ملاحظتها بوضوح عند أي طفل في هذه المرحلة.
ففي العام
الأول، يظهر لدى الطفل الشعور العام بالارتياح الذي ينتج عن الحبّ والبهجة
والفرح.. وفي العام الثاني تبدأ انفعالات الطفل بالتغيّر السريع وعدم الاستقرار،
حيث ترتبط التغيّرات بمنبّهات لها علاقة وثيقة بالأم وما يصدر عنها تجاه الطفل،
صحّة الطفل العامة، شعور الطفل بالتعب أو الراحة، وغذاء الطفل ومواعيده..
أمّا في الاعي، حيث تأخذ هذه العوامل جميعها وضعاً مميّزاً في حياة الطفل وتؤثّر بفاعلية في نموّه النفسي والانفعالي.
2- في
مرحلة الطفولة المتأخّرة:
يتّسع في هذه
المرحلة مجال حياة الطفل الانفعالية، مترافقاً مع اتساع حياته الاجتماعية؛ فينتقل
الطفل من نطاق الحياة الأسرية إلى الأتراب والرفاق، في الحي وفي المدرسة، وتصبح له
علاقاته الاجتماعية الخاصة. ويتأثّر بالنضج الجسمي والعقلي والنفسي، الذي يرتقي في
هذه المرحلة، كما يتأثّر بالتعلّم وتتسّع ثقافته. ولذلك تمتاز انفعالات الطفل في
هذه المرحلة، بالهدوء النسبي بفضل تدخّل العقل إلى حدّ ما، وتحكّمه في تغيير بعض
الانفعالات والسيطرة عليها، لمسايرة متطلّبات المجتمع.
أمّا من
الناحية العاطفية، فإنّ الطفل في هذه المرحلة يعتمد عاطفياً على والديه إلى حدّ بعيد،
وهو يتطلّع دائماً لأن تبقى هذه العلاقة وديّة ومستقرّة، لأنّ هدمها فيه هدم لكيان
الطفل. وما التدليل الزائد أو القسوة الشديدة
والعقاب، أو التهديد بأشكاله، سوى عوامل لتدمير مشاعر الطفل.. وبدلاً من أن
تعمل على تعديل سلوكه (كما يعتقد بعض الوالدين)، فإنّها تؤدّي إلى القلق
والاضطرابات، التي لا يستطيع تحمّلها، وقد ينجم عنها صراعات انفعالية عنيفة، قد
تؤثّر سلباً على نموّه النفسي، وحياته الوجدانية بوجه عام.
2- في مرحلة المراهقة:
تتميّز الانفعالات في هذه المرحلة بالقوّة
والشدّة؛ فعلى الرغم من أنّ أنماط الانفعالات في مرحلة المراهقة هي ذات الأنماط
التي كانت في مرحلة الطفولة المتأخرة، غير أنّ انفعالات المراهقة تختلف عنها في
نوع المنبّهات التي تثيرها، وفي صور التعبير التي تتخذها.
فالمرهق
يجد أنّ حصيلة ما تعلّمه في طفولته، لم يعد كافياً لمواجهة المواقف الجديدة في هذه المرحلة؛ فهو سيتعرّض إلى توتّر انفعالي
قويّ، كما أنّه يجد صعوبة في تحقيق التكيّف المطلوب بين النموّ العقلي والنمو
الاجتماعي. فهو يريد أن يشبع حاجاته ودوافعه بشكل يخالف ما يتعارف عليه المجتمع،
أو ما يقبله العقل والمنطق..
ولعلّ من
أبرز الأنماط الانفعالية التي تظهر في مرحلة المراهقة، هي: (الحبّ، العاطفة،
الغضب، الخوف، القلق، الغيرة، الحسد..) وبما أنّ المراهقة تمتاز بالحساسية
المرهفة، وبسرعة التأثّر، فإنّ لأسلوب التعامل مع المراهق دور مهمّ في التأثير على
انفعالاته وعواطفه، من خلال توجيهها، أو تصعيدها..وهذا الدور مناط بالوالدين
والمربّين بالدرجة الأولى، لمنع تدهور انفعالات المراهق وانحرافها، وتلافي
انعكاساتها السلبية على البنية العامة لشخصيته..!
ثالثاً-العوامل المؤثّرة في نموّ الانفعال :
يتأثّر
النمو الانفعالي ويتطوّر، إيجاباً أو سلباً، تبعاً لعاملين أساسيين لهما الدور
الأكبر في تشكيل شخصية الفرد، هما الوراثة والبيئة، وإن كان دور كلّ منهما يختلف
عن الآخر، من حيث الفاعلية وقوّة التأثير.
1-
العوامل الوراثية:
تعدّ العوامل
الوراثية من أكثر العوامل التي تؤثّر في النمو الانفعالي ونضجه، وذلك بالنظر
لارتباطها بالعناصر التكوينية (الفطرية) للفرد. وهذا ما أكّدته دراسات كثيرة لاحظت
أنّ الأطفال العاديين والمعوّقين، ولا سيّما الصمّ والعميان، يظهرون الانفعالات
ذاتها (الضحك، الغضب، الابتهاج، الحزن.. وغيرها) على الرغم من أنّ الأطفال المعوّقين
لم يروا أو يسمعوا أحداً يضحك أو يغضب أو يبتهج...!
وممّا يدلّ
على أنّ العامل الوراثي هو عنصر أساسي في النمو الانفعالي، أنّ الأطفال الصغار
يبدأون جميعاً في الصياح والبكاء، والابتسام والضحك، في السنّ ذاتها تقريباً، من
دون أن يكون لهم أية اتصالات بغيرهم من الأطفال، أو محاكاة بعضهم بعضهم
الآخر..
كما أنّ
الأطفال الرضع الذين يثاروا بضوء ساطع، أو يوخزوا بدبوس أو تقيّد حركتهم، يستجيبون
جميعاً بانفعالات واحدة؛ وهذا ما يسمّى (الاهتياج العام)، حيث يمكن التفريق بين
نوعين من هذا الاهتياج هما: (الابتهاج والضيق). ولكنّ هذا الانفعال العام ما يلبث
أن يأخذ بالتمايز مع نموّ الطفل، بحيث يتحوّل انفعال الضيق إلى التعبير عن الخوف
والغضب والنفور، ويتحوّل انفعال الابتهاج إلى التعبير عن المرح والفرح
والعطف...ولكنّ صورة هذا التعبير وشدّته، تختلف من طفل إلى آخر تبعاً لطبيعة
استعداداته الوراثية، ومستوى قدراته على التعامل مع هذه الانفعالات.
2-
العوامل النفسيّة:
ثمّة مجموعة من العوامل النفسيّة التي تؤثّر في الهيجان من حيث إثارته أو شدّته، يمكن أن نجملها بالأمور التالية:
2/1- الصدمات النفسيّة:
قد يتلقّى الشخص
مجموعة من الصدمات النفسيّة، كأن يقابل حبّه للآخرين بالصدّ وعدم المبالاة، أو أن
يضرب أو يهان دون أن يتوقّع ذلك، أو أن يعاقب على خطأ لم يرتكبه، أو يقابل
بالسخرية من الناس حيثما وجد، على الرغم من شعوره بذاته وتقديره لشخصيّته. هذه
المواقف كلّها تصيب الشخص بالصدمات النفسيّة التي تفقده القدرة على ضبط ذاته،
وفقدان الثقة بالمستقبل القريب والبعيد على حدّ سواء؛ فيكون سريع الهيجان، ينظر
بريبة وتوجّس إلى كلّ ما يحيط به من أشخاص وأشياء، ويتوقّع أن يصيبه الشرّ أو
الأذى من كلّ جانب.
2/2- الاضطرابات
العصبية ومجابهة موقف خطر:
وينجم ذلك عن
اضطرابات في الجهاز العصبي كلّه، وما ينجم عن هذا الاضطراب من عدم توازن في
إفرازات بعض الغدد الصماء. وأكثر ما تظهر
تلك الاضطرابات عندما يجابه الشخص موقفاً مفاجئاً، يهدّد حياته بالخطر، أو
يواجه موقفاً شديد الصعوبة يشكّل بالنسبة له مأزقاً حرجاً، قد لا يجد له مخرجاً،
لأنّه لم يعتد عليه من قبل.
فقد
أبرزت بعض الدراسات أثر كلّ منبّه مؤلم في انفعالات الطفل؛ فالتعب
يزيد من قابلية الطفل للغضب والنزق.. والمرض وما يصاحبه من ألم وضعف، يقلّل من
القدرة على التحمّل ويقود إلى الانفعال لأبسط الأسباب. أمّا الجوع، فيثير بعض
الانفعالات الحادة حيث ثبت أنّ نسبة الغضب –قبل الطعام- تصل إلى حوالي 60%، بينما
تهبط إلى 20% بعد تناول الطعام.
3-
العوامل البيئيّة / الاجتماعيّة:
يظهر أثر العوامل
البيئية في النمو الانفعالي، من خلال التدريب المرتبط بالخبرة المستمرّة الناتجة
عن التعلّم، والحياة الاجتماعية / الثقافية المعاشة. فقد أجريت العديد من الدراسات
النفسية / التربوية على أثر البيئة في تكوين الانفعالات عند الأفراد، الصغار منهم
والكبار..
فممّا
يلاحظ، أنّ لترتيب الأولاد في الأسرة دور في نمو الانفعالات وإظهارها، حيث يكون
الطفلان (الأول والأخير) من أكثر الأبناء حساسية للمشكلات الأسرية، وأكثر تعرّضاً
للانفعالات المصاحبة لها؛ فالطفل الأول (البكر) هو الذي حظي بالقسم الأكبر من
الرعاية والعناية والمحبّة، قبل مجيء الطفل التالي / المنافس له، وهو يحاول الحفاظ
على هذه المكانة وعدم التنازل عن المكتسبات التي حقّقها في هذه المكانة، ويحرص على
عدم التفريط بها.
أمّا
الطفل الأخير (آخر العنقود كما يقولون)، فهو الذي ينال اهتمام الكبار في الأسرة،
وربّما أكثر ممّا ناله الأخ الكبير، وكلّ من حوله يولونه المحبّة والعناية
الزائدة، ولا يرفضون له طلباً.. ولذلك فهو يستغلّ انفعالاته ويظهرها بأوضح صورها،
ولا سيّما الغضب والامتعاض، لفرض شروطه وتحقيق مآربه.
فكثير من
مظاهر الانفعالات تكون في الأصل منعكسات عفوية، غير مكتسبة، كالبكاء والصراخ
والضحك، ولكنّ مظاهرهذه الأفعال تتعدّل بتأثير البيئة الاجتماعية، حيث يكيّفها
الفرد بحسب ضرورات الموقف الاجتماعي، ويستعملها وسيلة للتكيّف مع الآخرين، كأن
يبكي مثلاً، من أجل استعطافهم وإظهار حزنهم على الوضع الذي يعاني منه.
وإذا كانت
الوراثة تقدّم أساساً للانفعالات، فإنّ البيئة تقدّم مجال التكيّف الانفعالي،
مصدره التعلّم والخبرة التي يكتسبها الطفل / الفرد من محيطه العام، حيث يظهر
التكيّف في أنواع كثيرة من الانفعالات، تتجلّى في الأمور التالية:
1- يتعلّم المثيرات الجديدة
لانفعاله وما يرافقها من ردود فعل مناسبة؛ ومن الأمثلة على ذلك، مسبّبات الهرب أو المقاتلة، وما هي الطرق التي يمكن أن
ينوّع فيها للتعبير عن هذين الدافعين.
2- يتعلّم ضبط الانفعالات، أو
التمكّن من إخفائها عن الآخرين، أو تزييفها، وذلك تلبية لرغببات المجتمع الذي يعيش
فيه؛ ومن الأمثلة على ذلك، أن يبتسم الطفل حتى وهو غاضب، أو يتظاهر بالدهشة لسماع
أخبار عادية ليس فيها جديد أو طريف.
3- يتعلّم التكيّف مع التعبيرات
الوجهية للانفعالات؛ فهناك تعبيرات فطرية لا إرادية، لكنّها تتحوّل بفعل الإرادة
وتأثير التربية والبيئة، إلى تعبيرات مكتسبة، ولا سيّما التعبيرات التي لها دور
فعّال في العلاقات الاجتماعية. ومن أمثلة ذلك، أنّ الابتسامة تعبير فطري لا إرادي،
ولكن يمكن التلاعب بها والحصول على أنماط مختلفة، منها: (ابتسامة التهكّم، ابتسامة
النفاق والمداراة، ابتسامة الازدراء، ابتسامة التكبّر والاستعلاء... وغيرها).
وثمّة دلائل تؤكّد أثر البيئة في نشأة الانفعال وتطوّره، حيث تتكيّف التعبيرات الانفعالية اجتماعياً، وتختلف من شعب إلى آخر، حتى بين الرجال والنساء. فنحن مثلاً، نعبّر عن انفعال الدهشة برفع الحاجبين واتساع العينين، بينما يعبّر الصسنيون عن الدهشة بإخراج ألسنتهم.. ونحن أيضاً نعبّر عن الارتباك، بحك مؤخّرة الرأس أو الأذن أو الخدّ، بينما يقوم الصينيون بهذه الحركات تعبيراً عن الشعور بالسعادة
رابعاً- أنواع الانفعال ومظاهرها :
إذا ما
عدنا إلى مفهوم الانفعال وطبيعته وتأثيراته، نجد أنّ الباحثين في علم النفس
والتربية، يميّزون بين نوعين أساسيين من
الانفعال، بحسب تأثيرهما في العمليات العقلية / الفكرية، ومنعكساتها السلوكية،
وهما:
1- الانفعال المعتدل:
وهو الخط
الهادىء من الانفعال الذي يساعد صاحبه في تأدية الوظائف العقلية، ومنعكساتها
السلوكية، بنظام وتنسيق.. ولذلك يعدّ الانفعال المعتدل عاملاً من العوامل الحافزة
للحصول على المعرفة، باعتباره يعمل لتغليب
العقل على النزوات والاندفاعات المتهوّرة؛ أي أنّه يعبّر عن التوازن الشخصي في
تصرّفات الفرد، الداخلية والخارجية.
2-الانفعال الحاد:
وهو الخط
الثائر من الانفعال الذي يخرج صاحبه عن حدود النشاط المقبول / المعقلن، من الناحية
العقلية والسلوكية، حيث ينشط الجهاز العصبي بطريقة عنيفة وتعسفيّة، تفقد الشخص
القدرة على ضبط النفس والسيطرة الذاتية. ويظهر الأثر السلبي لهذا الانفعال الحاد
في الوظائف العقلية، بصورة واضحة تتجلّى في الأمور التالية:
1- شلّ التفكير وتشويه الإدراك،
وفقدان المقدرة على حصر الانتباه وتركيزه، بحيث تضعف المقدرة على التذكّر، فيسيطر
على الشخص المنفعل عامل النسيان الكامل، فلا يعود يعي ما يقوله أو ما يجب أن يقوله
في الموقف المفروض، ومن أمثلة ذلك الانفعال الحاد الذي يصاحب قلق الامتحان.
2- فقدان الشخص المقدرة على حلّ
المشكلات عن طريق الحكمة السليمة، فتصبح أحكامه كلّها فاسدة، لا معنى لها ولا
جدوى، حيث يبدو وكأنّه لا يرى الكثير من الحقائق، ويبتعد عن التفكير
المنطقي..ولكنّه يشعر بالندم –فيما بعد-على ما فعل في أثناء غضبه، وحين لا ينفع
الندم.
3-لجوء الشخص الثائر (المنفعل)
إلى أسلوب بدائي في تصرّفاته، غير
مهذّب، يعتمد على الهجوم والعداء،
واستخدام الصياح والمكابرة، من دون أي رادع.
4- وأخيراً، لا يرى الغاضب /
الثائر (المنفعل) في مناقشة خصمه سوى عيوب هذا الخصم، متجاهلاً تلك الصفات التي
يمكن أن تجعله أكثر تفاعلاً في التعامل معه.
وهكذا نجد أنّ العوامل
الفكرية / المعرفية، تسهم إلى حدّ كبير في تنمية الانفعالات وتهذيبها، وتعديل
مظاهرها.. ونجد في المقابل مدى تأثير الانفعالات (المعتدلة والحادة) في العمليات
العقلية والسلوكية، إيجاباً أو سلباً، ولا سيّما في التفكير والإدراك والمحاكمة،
واتخاذ المواقف المناسبة.
أمّا من
حيث فاعلية الانفعالات، فقد قسّمها (كانط)
إلى انفعالات بناءة وأخرى هدّامة؛ فالانفعالات البنّاءة: تسهم في زيادة
نشاط الجسم الإنساني وحيويته، وتحفز فعالية حياته النفسيّة. ومن أمثلتها: (الحبّ
والبهجة والإلهام والإعجاب البالغ) وكلّها تفجّر لدى الإنسان الطاقات الخلاّقة
والمقدرة الفائقة على العمل والانتعاش، والانطلاق الكلّي..فكم جعل العشق (الهوى)
صاحبة متأهّباً لأن " يزيح الجبال من مكانها " كما يقولون..!
أمّا
الانفعالات الهدّامة: فهي التي تثقل كاهل الإنسان، وتحدّ من نشاطه وتشتّت
طاقاته، لأنّها تنشأ عن نزاع بين الذات والناس الآخرين، أو بسبب فشل متكرّر
وإخفاقات في العمل حيث تشكّل الصعوبات
التي يواجهها المرء في حياته، أشدّ الخطر في تكوين هذا النزاع. فهذه الصعوبات تولّد
في داخل الإنسان سلسلة من الحالات الانفعالية التي تعكّر النفس وتضعف مقدرة
الإنسان على العمل، وتقيّد طاقاته وتحدّ من فاعليتها في المواجهة
المطلوبة.
وهذا ما
يعطي التربية الانفعالية / الوجدانية أهمية كبيرة في تنمية الانفعالات وتوجيهها
الوجهة السليمة، التي تجعل الشخص قادراً
على التصرّف المناسب في المواقف المختلفة.
سبحان الله والحمدالله والاالله الاالله والله اكبر والاحول والاقوة الا بالله
ردحذف