تشتمل الأسرة على نماذج
القدوة والتوحّد، حيث يمثّل الوالدان نموذجاً للقوة والاقتداء في السلوك بالنسبة
لأطفالهما في الأسرة، إلى درجة يتمثّل فيها الولد –عادة- قيم الأب، وتتمثّل البنت
قيم الأم؛ وهذا يعتبر نوعاً من التوحّد بأحد الوالدين يشعر معه الطفل / الطفلة
كأحد مصادر الأمن النفسي والرضا الذاتي.
1- تشكّل الأسرة بالنسبة للطفل،
إطار التفاعل الاجتماعي ومصدر الخبرات الاجتماعية؛ فالطفل منذ ولادته يصبح عضواً
في الأسرة، يتفاعل مع أفرادها ويكتسب الخبرة والمعرفة اللازمة والضرورية لتأمين
نموّه السليم.
2ـ وبناء على
ما تقدّم، تعدّ الأسرة الإطار المرجعي (الذاتي والاجتماعي) بالنسبة للطفل، فهي
المصدر الأساسي لإحساسه بالأمن والطمأنينة، والقبول والرفض، فيعتمد معاييرها في
تقويم سلوكاته ومواقفه، والتي تمثّل العناصر الضرورية لاستقراره النفسي
والاجتماعي، وتتيح له بالتالي تحقيق أعلى درجة من الصحّة النفسيّة.
أقراء ايضأ :التربية الانفعالية / الوجدانية في الأسرة
2- دور
الأسرة في التربية الانفعالية/ الوجدانية:
الأسرة هي
المدرسة الأولى التي نتلقّى فيها دروساً عن العاطفة، وفيها نتعلّم ونحسّ بذواتنا،
وكيف يستجيب الآخرون لمشاعرنا، وكيف نفكّر بما نحسّ به، وكيف نعبّر عن ذواتنا.
فالأطفال لا يتعلّمون التربية العاطفية لتفعل فعلها من خلال ما يقوله لهم الآباء
مباشرة، أو ما يعلمونه لهم فحسب، وإنّما يتعلّمون من خلال الأنماط التي يتعاملون
بها مع عواطفهم / وكذلك من خلال ما يحدث بين الآباء والأمهات، فبعض الوالدين معلمون موهوبون للعواطف، وبعضهم عاجز
تمام العجز عن القيام بذلك..
فالطفل
يحتاج في السنوات الأولى من تربيته إلى الوالدين، حيث يقضي هذه السنوات في أحضان
الأسرة، وهذه السنوات لها دورها الفعّال في تكوينه الوجداني والأخلاقي، وتكوين العادات والعواطف.. ويرى علماء النفس والتربية أنّ
مرحلة الطفولة من أهم مراحل الحياة في تاريخ الناشىء / الفرد، ذلك لأنّها الأساس
الذي يعتمد عليه تكوينه في المراحل التالية، ولا سيّما من الناحية الانفعالية، فالطفل يتعلّم الحبّ والكراهية في محيط الأسرة،
من خلال حبّ والديه أو كراهيتهما لمن يؤذيه أو يضرّه، لذلك يلجأ إلى والديه في كلّ
المواقف المزعجة والمخيفة.
فالتربية
الانفعالية / الوجدانية ينبغي أن تكون تربية سليمة يقظة ودائبة، وفي وسع الأسرة أن
تكون البيئة الصالحة الأولى لهذه التربية؛ فالأسرة هي المجتمع الشيّق الذي يحفل
بالإخلاص والمرح والمحبّة والحنو، ويؤمّن للطفل كافة أنواع الرعاية اللازمة. وهذا
يقتضي من الوالدين أن يجيدوا تربية الوجدان وضبط الانفعال وتهذيب الضمير، وأول ما
يعمدون من أجل ذلك، استخدام طريقة الأمر بالسلطة (وليس التسلّط)، حيث يترتّب على
الطفل إطاعة الأوامر التي تمثّل في نظره صورة الخير والشرّ، في مرحلة المباح أو
الممنوع؛ وهذا الأسلوب التربوي هو أسلوب التدريب الذي تبدأ به التربية الانفعالية
/ الوجدانية. ثمّ يرتقي هذا التدريب بحيث ينقل الطفل من الشعور
بالمنع من الخارج إلى الشعور بالمنع من الداخل، أي التحوّل إلى القدرة على التوجيه
الذاتي، فيصبح الطفل / الشخص ذا طبيعة وجدانية قادرة على اتخاذ الأحكام الوجدانية
/ الأخلاقية الصحيحة.
ولذلك
فإنّ ما يسود أفراد الأسرة من تحابب واحترام وتعاطف، أو نفور واستهتار وشغب، له
أثره العميق على نمو الطفل الانفعالي..فإذا كان جوّ الأسرة سعيداً يسوده التعاطف
والودّ، نمت وجدانات الطفل وانفعالاته نموّاً متّزناً، وشعر بالمحبّة والحماية
والسلامة وحريّة التصرّف، لأنّ المحيطين به يفهمون سلوكه ويعطفون عليه. وبذلك يخلو
نمّوّه الانفعالي من الكبت والعقد النفسيّة، وينشأ سليم العقل والتفكير.
كذلك فإنّ علاقة الوالدين بعضهما ببعض من جهة، وعلاقتهما مع الأبناء من جهة أخرى، لها دور فعّال في النموّ الانفعالي لدى الأبناء؛ فالأم والأب عندما يميّزان بين الأبناء، أو يتحيّز أحدهما لابن دون آخر، أو يفضّلان بعض الأبناء على بعضهما الآخر، فإنّهما يكسبان الأبناء الغيرة والأنانية والمنافسة الحادة، بينما ينشأ الأبناء الذين لا ينالون رضا الوالدين، على السخط والشعور بمرارة الظلم والحرمان..وفي كلا الحالين تأثيرات سلبية على الحياة الانفعالية / الوجدانية للأبناء.
أقراء ايضأ : العـاطفـة فى الأسرة
3-
متطلّبات التربية الانفعالية / الوجدانية في الأسرة:
تعدّ الأسرة المصدر الأساسي لإشباع حاجات الإنسان، من مرحلة
الطفولة إلى مرحلة النضج والبلوغ، وقد تستمرّ بعد ذلك تبعاً لطبيعة الروابط
الأسرية. فالأسرة مصدر خبرات الرضا أو
القلق عند الطفل، كما هي مصدر الاستقرار والاتصال الإيجابي بالحياة..وهي بالتالي
تمثّل العناصر الأساسية لاستقراره
العاطفي، النفسي والاجتماعي.
واستناداً
إلى فاعلية البيئة الأسرية في التربية العامة، فإنّ متطلبات التربية الانفعالية/
الوجدانية في الأسرة تقتضي توفير أجواء
يسودها الحب والتعاطف من جهة، والابتهاج والمرح من جهة أخرى:
1-
الحبّ:
الحبّ هو أحد
الانفعالات التي تتطوّر من الكائن البشري منذ الولادة وحتى المراهقة، لينضج
ويستمرّ معه طوال حياته، محرّكاً لمشاعره في مواقفه. ولذلك يعتبر الحبّ الذي تمنحه
الأسرة لأطفالها، جوهر الحياة النفسيّة
والمنظّم لها، والمعيار الذي تقاس في ضوئه الصحّة النفسيّة للطفل / الناشىء.
وكما يسير
اكتساب القيم التربوية العامة، كذلك يتدرّج الحبّ وفق مراحل النموّ الثلاث، وعلى
النحو التالي:
1/1- ففي مرحلة الطفولة المبكرة، تتركّز انفعالات الحبّ عند الطفل، على الأم وحنانها بشكل رئيس، وفي السنة الثالثة يبدأ الأب بمشاركة الأم في هذه العاطفة.وفي حالات كثيرة يكون حبّ البنات للأب أكثر منه للأم. وقد بيّنت دراسات كثيرة أن نشوء عاطفة الحبّ عند الطفل، ناتج عن محبّة الأم المجرّدة لطفلها، هذه المحبّة التي تشمل حماية الطفل ورعايته والقلق من أجله، وغير ذلك من المشاعر العاطفية. ولكن في حالات كثيرة يكون حبّ البنات للأب أكثر ممّا هو للأم.
2/1 - وفي
مرحلة الطفولة المتأخرة، يتّسع دور
الأسرة في تنمية عاطفة الحبّ عند الطفل، فيصبح اأكثر نضجاً اجتماعياً وانفعالياً،
وتتّسع دائرة حبّه وعواطفه إلى المحيط العام خارج الأسرة، لتشمل رفاقه ومعلّميه في
المدرسة. وفي السنين الأخيرة من هذه المرحلة،
تتركّز الانفعالات من عطف وحنان، على الزملاء من الجنس نفسه.
3/1- أمّا
في مرحلة المراهقة، فإنّ عاطفة الحبّ تتّجه نحو الجنس الآخر، من دون أن يتخلّى
المراهق عن حبّه لوالديه، وإن كانت شدّة وجداناته تجاههما أقلّ ممّا كانت عليه في
المرحلة السابقة. ويخضع ذلك لطبيعة العلاقة بين الوالدين والأبناء، ومستوى الوديّة
والاحترام بين الطرفين.
قد يحدث – أحياناً- نكوص عاطفي لدى الطفل في
إحدى المراحل، وقد يحدث أن يفشل حبّ الجنس
الآخرفي مرحلة المراهقة لسبب ما، قد يؤدّي إلى تعطيل في العاطفة وإلى ثبات في
انفعال الناشىء عند هذه المرحلة. وهنا تبدو أهمية ما تقدّمه الأسرة لابنها
(ابنتها)من عطف ومحبّة وحنان وذلك لأنّ فترة المراهقة قد تكون
من أخطر المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته، الأمر الذي يتطلّب من الوالدين
الحذر في التعامل مع الأبناء، فلا تفريط ولا إفراط في المحبّة والتدليل، ولا قسوة
ولا تشديد في المواقف، بل التعامل بأسلوب يشعر المراهق معه بأنّ والديه يكنّان له
الحبّ الخالص، ويسعيان لما فيه مصلحته وخيره..!
2-
التعـاطف:
يشير التعاطف إلى
التفاعل العاطفي، أو التبادل العاطفي بين شخص وآخر، يشعر كلّ منهما بالراحة
والاطمئنان تجاه الآخر، وهذه من السمات الأساسية للعلاقات الطيّبة بين بني البشر.
فالطفل منذ مرحلة الرضاعة المبكرة، يحسّ بالحاجة إلى التعاطف حيث يخرج على الوجود ضعيفاً عاجزاً أمام قسوة الحياة التي تنتظره , ولذلك يكون في أمسّ الحاجة لرعاية الآخرين، ولا سيّما الأقارب المتمثّلين بالوالدين. فمنذ ولادة الطفل نجده ينشد العطف الذي يوفّر له الأمن والاطمئنان، ووسيلته الأساسية في ذلك هي التقرّب الودّي إلى الآخرين؛ وهنا تظهر أهمية سلوك الوالدين التعاطفي في لتعامل مع الطفل، كعامل أساسي يؤمّن له النمو النفسي /الوجداني، حاضراً ومستقبلاً.
إنّ الطفل الذي يحرم من العطف الأبوي والحبّ الأسري، يحرم من فرص السعادة والفرح وربّما حبّ الاستطلاع أيضاً؛ فالعطف والحنان اللذان تقدّمهما الأسرة إلى الطفل، هما من الأسس الضرورية لتنمية عواطفه تنمية سليمة خالية من الصدمات، وفي ظلّ المشاعر الصادقة والعواطف الصحيحة فقط، يمكن هداية الطفل إلى الطريق القويم والحياة السعيدة. أمّا الطفل الذي يحرم من العطف والحنان في الأسرة، فإنّ مشاعره تسير في اتجاه منحرف حيث يشعر بالتشاؤم والاستياء، وتشبّ في نفسه نيران الحقد والبغضاء.
وهناك كثير من الآثار التي تنجم عن حرمان الطفل العطف والمحبّة، والتي تنعكس على جوانب نموّه المختلفة، ويمكن إجمالها بما يلي:
1- تأخّر نموّ الطفل من الناحية
الجسمية، حيث تظهر عليه آثار النحول والهدوء والفتور، وقلّة الحركة والمشي، وفقدان
الشهيّة وبعض الأمراض النفسيّة.
2- تأخّر التطوّر العقلي، ممّا
ينتج عنه تأخّر الكلام وضعف القدرة على التعلّم والتذكّر بشكل سليم، كما تظهر عند
بعض الأطفال أمراض الكلام مثل التأتأة، والتلعثم.
3- ظهور ردود الفعل السلبية
(الانفعالية والاجتماعية)، تترك آثارها على تطوّر شخصيّة الطفل بوجه عام، وتعوّق
تفاعله الاجتماعي، فيميل إلى أن يكون عدوانياً ويبدي بعض السلوكات اللاجتماعية.
فالتعاطف يعدّ من المكوّنات الأساسية للعلاقات السليمة بين الأهل والطفل، كما أنّه من العوامل الأساسيبة للعلاقات بين الأفراد في المجتمع. وثمّة دراسات كثيرة أشارت إلى آثار عملية التعاطف والحبّ في العلاقات الاجتماعية، ولا سيّما قدرة الوالدين على تحقيق ذلك لضمان سلامة الطفل النفسيّة والانفعالية. ويظهر ذلك في الدور التربوي الذي
تقوم به الأسرة لتكوين الانفعالات السارّة
لدى الطفل من خلال الإجراءات التالية:
1- تقبّل الطفل كما هو، وغمره
بالحب والتعاطف.. والسماح له بأن يكون هونفسه، فينمو وفق قدراته واستعداداته
الخاصة.
2- غرس الثقة في نفس الطفل،
واعتبار أنّ النمو الانفعالي في مرحلة المراهقة مبني على التعاطف في مرحلة
الطفولة.
3-إدراك أنّ حاجة الطفل
والمراهق للتعاطف مع الآخرين، تتعمّق وتتكامل في مرحلتي الطفولة والمراهقة، وهي
بالتالي من الحاجات الأساسية للحياة اللاحقة.
وهكذا نرى أهميّة الدور
التربوي الذي يجب أن تقوم به الأسرة في توفير الأجواء المناسبة لخلق الانفعالات
السارة عند الأبناء؛ وأنّ عدم قدرتها على القيام بذلك قد يؤدّي إلى إصابة بعض
الأبناء بالسأم والملل، وبالتالي غياب المرح والاستمتاع في الحياة. وهذا ما ينبغي
على الوالدين مراعاته، من خلال إدخال البهجة والمسرّة إلى نفوس
الأبناء (الأطفال والمراهقين)، لكي يتمكّنوا من مواجهة الحياة بنجاح
وسعادة.
أقراء ايضأ: طبيعة الانفعال ونموّه وأنواعه
3- الابتهاج والمرح:
يعدّ الابتهاج أول انفعال سار يبديه الطفل وهو
في مرحلة المهد، ويعبّر عنه بالارتياح نتيجة إشباع حاحاته الجسدية من
الطعام والراحة، ومع نهاية السنة الثانية يمكن تمييز انفعالات أكثر وضوحاً
وتخصيصاً في المرح والحنان، حيث يستطيع الطفل أن يعبّر عن ابتهاجه ومرحه
بالابتسامة أو بالضحك، بينما يمكن ملاحظة الاستمتاع أثناء لعب الأطفال، وكيف أنّ
سرور الطفل يعكس شعوره بالمتعة في التفاعل مع الألعاب التي تجذبه وتلبّي حاجاته
للحركة والاطلاع.
فالطفل منذ الولادة ينشد العطف والحنان، وتكون وسيلته في ذلك التقرّب الودّي نحو الآخرين؛ وهنا تظهر أهمية سلوك الوالدين التعاطفي كعامل أساسي في إرساء الأسس السليمة للنمو النفسي / الانفعالي عند الأبناء.
لكنّ طبيعة الابتهاج والمرح ودرجة انفعال كلّ منهما، تتفاوت من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى؛ ففي حين كان الابتهاج يدور في بداياته حول إشباع الحاجات الجسدية، فإنّه يصبح في المراحل المتقدّمة، يدور حول إشباع الحاجات الاجتماعية، حيث تسرّ البنات بالمناسبات الاجتماعية بينما يسرّ الأولاد بالرحلات والخلوات لممارسة الألعاب والنشاطات الحرّة، لأنّها تتيح لهم ممارسة الألعاب والنشاط التلقائي الحرّ، وكلّما تقدّموا في العمر يزداد تمتّعهم بالأشياء المعنوية.
وعندما
يبلغ الطفل سنّ المراهقة، فإنّ وجداناته من تعاطف وابتهاج واستمتاع، ترتبط بمن له
معهم علاقات سارة ويبعثون في نفسه الشعور بالاطمئنان، فيشعر المراهق بالبهجة نتيجة
توافقه السليم مع المواقف الاجتماعية التي يوجد فيها، أو مع الأشخاص الذين
يتقمّصهم.
وإذا كان
التعاطف من السمات الأساسية للعلاقات بين
الأهل والطفل أولاً، وبين الطفل /الفرد والآخرين ثانياً، فقد اثبتت الدراسات أنّ
الاستجابة للابتهاج والمرح تتفاوت من فرد إلى آخر، تبعاً للتربية الانفعالية/
الوجدانية التي نشأ عليها كلّ منها، ولا
سيّما في العلاقات الأسرية بشقيها الإيجابي والسلبي.
والخلاصة، يؤكّد علماء الاجتماع
والتربية، أنّ الأسرة هي البيئة الأكثر صلاحاً لتربية الأبناء، ولا سيّما في مراحل
الطفولة، حيث تكون الصلة بين الطفل ووالديه قوية تسمح بالتفاعل والتقبّل وغرس أية
قيمة أو سلوك عند الطفل. وهذا ما يجعل تنشئة الطفل مع والديه أفضل وسيلة لتهذيب
انفعالاته وضبط عواطفه، وإبعاده عن ردّات الفعل الانفعالية السلبية، كالغيرة
والسخط، والكره والحقد والعدوان...!
تعليقات
إرسال تعليق
مرحبا بتعليقك عبر عن رائيك شاركنا....