مقدمــــة:
القيم
جزء من الإرث الثقافي للمجتمع، ولكي تستمرّ المجتمعات موحدّة متماسكة، فلابدّ من
أن تستند إلى قواعد وأسس ثابتة تقوم على منظومات من القيم تعبّر عن طبيعة المجتمع
وخصائصه، وتعمل على إدماج الفرد في الإطار الثقافي / الاجتماعي، وتتجلّى في أنماط
سلوكية تصبح من مكونات شخصيته
وسيتناول هذا الفصل قضية مهمة إنسانياً
وتربوياً، وهي منظومة القيم التربوية، باعتبار النسق القيمي ومضموناته هي إحدى
الركائز التي تقوم عليها التربية الاجتماعية كهدف ووظيفة، من خلال معرفة ماهية
القيم وتعريفها وتصنيفها، ثم البحث في تعلّمها واكتسابها من خلال التربية الأسرية، ودورها في بناء منظومة القيم
الاجتماعية.
أقراء أيضا :العوامل التي تؤثّر في التربية الأسـرية
أولاً- مفهوم القيمة وطبيعتها:
بما أنّ الإنسان كائن اجتماعي يعيش نظام
المجتمع المكون من أفراد تجمعهم قيم ومثل،
يتعاملون من خلالها بعضهم مع بعض ومع غيرهم، فإنّ دراسة القيم تعدّ ضرورة
من الضرورات اللازمة للتربية، بمؤسساتها وطرائقها النظامية وغير النظامية، في سعيها نحو مناقشتها وتدعيمها لدى الأفراد
والجماعات، باعتبار التربية في تحليلها النهائي، مجهوداً قيمياً مخططاً يستهدف
تحليل القيم الاجتماعية وغرسها ".
وثمّة قيم ثابتة وأخرى متحرّكة " فالقيم الثابتة مشتركة بين معظم المجتمعات الإنسانية، كالحقّ والخير والصدق والأمانة والحبّ والوطنية. أمّا القيم المتحوّلة فتختلف باختلاف النظام الاجتماعي، بجوانبه الثقافية والسياسية والاقتصادية،كقيم الحريّة والديمقراطية والاشتراكية والاستغلال والتمييز... "
.
واستناداً إلى ذلك،
نجد تعريفات للقيم، بحسب وجهات النظر المتعدّدة لطبيعتها ومدلولاتها.
تعرّف القيمة من الجانب الذاتي، بأنّها ذلك الجانب من الدافعية
الذي يشير إلى المعايير الشخصية والثقافية، أو هي التوجيه الاختياري نحو التجربة
والذي يحتوي إلزاماً عميقاً، أو الرفض الذي يؤثر في نظام الاختيار بين بدائل ممكنة
في الفعل.. أي هي المعايير التي تشكّل الرغبات وتحقّق الإرضاء لحاجات الفرد الملحّة
أمّا المدخل الفلسفي التجريدي والمنظور، فيرى
أن مفهوم القيمة " ينطلق من مسلمة أساسيّة مؤدّاها: أن القيم ما هي إلا محصلة
تفاعل الإنسان، بإمكاناته الشخصية،مع متغيّرات اجتماعية وثقافية معينة، وأنهّا
محدّد أساسي من المحددّات الثقافية للمجتمع".
ويرى /سكنر / أنّ القيمة حكم أخلاقي أو معنوي، بمعنى أنهّا روح وأعراف تشير إلى الممارسات الاعتيادية المألوفة لدى جماعة ما.. والقيمة موجودة في الظروف والطوارئ الاجتماعية المحتفظة بها لأغراض التحكيم أي أنّ القيمة هي: " مفهوم أو تصوّر لما هو مرغوب، صريح أو ضمني، يتميّز به الفرد أو الجماعة، ويؤثّر في الاختيار بين الوسائل أو الغايات المتاحة.. فالقيمة ليست تفضيلاً فحسب، وإنّما هي تفضيل مسوّغ عقلياً وأخلاقيّاً ".
.وتكون القيمة بالتالي، من الوجهة التربوية، معتقدات مما هو مرغوب
فيه ومرغوب عنه في المجتمع، وهي انعكاس لثقافته، بما فيها من عادات وتقاليد
وسلوكات وآداب عامة.
وبناءً على ما تقدم نجد أن الكثير من
الباحثين يرون أن القيم هي أحكام أو معايير، أي أنها عبارة عن معايير للحكم على ما
يؤمن به المجتمع ويؤثر في سلوك أفراده، ومدى صدق انتمائهم للمجتمع بما فيه من
الأفكار والأهداف والمعتقدات والطموحات، التي يتمثّلها الفرد بصورة مباشرة أو غير
مباشرة، وتنعكس آثارها في سلوكه الفردي والاجتماعي.
ثانياً-القيم والمجتمع :
إنّ نظام القيم السائدة في مجتمع ما، هو الذي
يحدّد طبيعة هذا المجتمع وتفرّده عن المجتمعات الأخرى، لأنّ هذه القيم من صنع
المجتمع وملك له، تحرّك مشاعر أبنائه
وتحدّد مواقفهم واتجاهاتهم، وتنمّي
انتماءهم لمجتمعهم، فيتمسّكون بهذه القيم ويدافعون عنها ويحافظون على مكانتها، ضمن
النظام الاجتماعي القائم مهما كان شكله وتركيبه، ولا سيّما إذا كانت تنسجم مع
طموحاتهم وتطلعاتهم، وينقلونها إلى أجيالهم استمراراً لوجودهم وترسيخاً لمبادئهم
ومواقفهم الحياتية. .
فالقيم اجتماعيّة المنشأ والهدف تصنّف
تربوياً وفق نسق هرمي بدءاً من الأسرة إلى المجتمع إلى الإنسانية. وهذه القيم
متداخلة ومتكاملة ضمن هذه الدوائر، فقد تكون فردية من جهة واجتماعية وإنسانية من
جهة أخرى، لأنّ الترابط عضوي بين أهداف الفرد وقيمة وأهداف المجتمع الذي يعيش فيه
وقيمه 0 فوراء كل عمل إنساني مقصود قيمة
لأنهّا تشكّل نظاماً للخطأ والصواب في سلوك الإفراد، وتدخل في صميم النظام التربوي
والاجتماعي.
وبما أنّ كلّ شيء يفعله الإنسان يتأثّر _إلى حدّ ما -بالعوامل الاجتماعية " فالمجتمع هو نتاج لعملية تفاعل بين أفراد يمارسون أنشطة فكرية وبدنية، من أجل تحقيق أهداف ومصالح مشتركة".
وما دامت المجتمعات تخضع لسنن النموّ والتطوّر، فالقيم جزء من
الكيان الاجتماعي وجزء من ثقافته، حيث تأثّر القيم بما يتأثّر به المجتمع الذي
ينتجها. وبما أنّ المجتمعات تختلف فيما بينها، بسبب التنوّع والتغيّر، فإنّ القيم
أيضاً تتفاوت من حيث طبيعتها وأبعادها الاجتماعية.
وبما أنّ لكلّ مجتمع نظاماً خاصاً من القيم
يتميز به عن غيره من المجتمعات، ويتمثّل في سلوك أبنائه وطرائق معيشتهم وأساليب
تفكيرهم وفلسفتهم في الحياة، فمن الطبيعي أن يحافظ كلّ نظام اجتماعي على قيمة
الخاصة، ويسعى إلى نقلها وغرسها في نفوس ناشئته من خلال المؤسسات التربوية
والاجتماعية المختلفة التي تعنى بتربية الطفل، والتي تشكّل الأسرة بدايتها
وأساسها.
وتمتاز القيم بأنّها تزوّد الفرد بالإحساس
الاجتماعي، وتوجّهه نحو هدف معيّن،وتهيئ
له الأساس نحو العمل الفردي والجماعي، وتعتبر حكماً على سلوك الآخرين والإحساس
بالصواب والخطأ. ولذلك تعدّ أحد المرتكزات
الأساسية للعمل التربوي، بل هي من أهدافه ووظائفه.
فالقيم مكتسبة ونتاج اجتماعي، تنبع من عالم
الفكر والوجدان، وتسهم في تماسك النظام الاجتماعي المستمر.. وإذا كانت التنشئة
الاجتماعية تبدأ منذ الطفولة ولا تنتهي على مدار الحياة، لتأهيل أفراد قادرين على
مواجهة مطالب الحياة في المجتمع، فإنّ دور التأهيل الاجتماعي يبرز من خلال غرس
القيم التربوية التي يصادق عليها المجتمع
وفق منظومة القيم التربوية السائدة فيه.
أقراء ايضأ : التربية الاجتماعية في الأسرة
ثالثاًً- تعليم القيم واكتسابها :
إذا كانت القيم مجموعة من المعايير التي
تحقّق الاطمئنان للفرد، وتلبّي حاجاته الإنسانية،
فهي متداخلة من حيث السلوك مع العادات والاتجاهات والأعراف الاجتماعية..
تتأثر بالسياق الثقافي للمجتمع والأحكام المعيارية المتّفق عليها، وهذا يؤثّر
بالتالي في تعليم القيم للناشئة واكتسابهم لها.
ولذلك يعدّ بناء القيم وترسيخها مهمّة صعبة في
مضمونها خطيرة في أهدافها، وتحتاج إلى أن تزرع في الوقت المناسب وفي المناخ
الملائم.. وتستمرّ هذه المهمة مع الإنسان مادام على قيد الحياة، يتعلّم ويتفاعل مع
محيطه الاجتماعي فيؤثّر فيه ويتأثّر به.
فأفكار الناس ومعتقداتهم
وعاداتهم وطرائق عيشهم ونظرتهم إلى المستقبل، ليست أموراً جامدة، بل تتطوّر
وتتغيّر باستمرار نتيجة تطوّر عوامل سياسية واجتماعية؛ ولذلك تولد باستمرار قيم
جديدة وتندثر قيم قديمة أو تتعدّل.
ولعلّ أهمّ الخصائص التي تميّز إنسان هذا
العصر، فيما يتعلّق بالقيم، أنّه عصر
اختلال القيم وتبدّلها، بسبب سرعة التطوّر السريع لوسائل الاتصال واتّساع أثرها،
بحيث أصبح الأبناء في سنوات ما بعد البلوغ، يرون أنّ أكثر القيم عند آبائهم أصبحت
طرزاً عتيقة، وأنّ مهمة المربي تقوم على إفهام الجيل الجديد ما تتطلّبه منهم
الأخلاق المجرّدة في الظروف الخاصة والواقعية للحياة، وأن تخلق عندهم الاهتمام بهذه المثل الخاصة
التي تصبح الدافع لسلوكهم الأخلاقي
يبدأ تعلّم القيم منذ مراحل الطفولة
الأولى من خلال عملية التأهيل الاجتماعي التي تبدأ في الأسرة وتستمرّ طوال الحياة.
وأنّ أيّة تربية فعّالة تهدف إلى تكوين الإنسان المؤمن بالقيم والاتجاهات السليمة،
لا بدّ أن توفّر متطلبات تلك التربية وتؤمّن المناخ الملائم، لأنّ مجرد معرفة
الطفل بهذه المعايير الخلقية لا يعني بالضرورة أن يتصرّف بمقتضاها، وذلك لأنّ الالتزام بالمعايير الخلقية إنمّا
يعتمد على عوامل أخرى أهمها: قوّة التوحّد مع قدوة لها المعايير ذاتها، وملتزمة بها.
ويتمّ اكتساب القيم والخبرات الانفعالية الخاصّة بها، من خلال أساليب تربوية تجسّد المواقف السليمة والجيدة التي تنتج عنها قيم إيجابية. وفيما يلي أبرز هذه الأساليب:
1- تقديم المثل الصالح (القدوة) كأن يسلك
الصغار مسلك الكبار، على اعتبار أنّ مسلك الكبار مثالي.
2- لإقناع،
وذلك بعرض الحجج والأسانيد التي لا يستطيع الفرد المستمع لها إلاّ أن
يتقبّلها راضياً.
3- تحديد نواحي الاختيار، فتعطي للأطفال
مثلاً بديلات محدّدة تعبّر عن قيم نحن نؤمن بها، ولا تترك لهم مجالاً
للاختيار.
4- الخضوع لقوانين وقواعد تحتم على الفرد
سلوكاً معيّناً وبصورة مستمرة، وتحت عيون المراقبة حتى يتصرّف بصورة تلقائيةً.
1- طرح الأفكار المنبثقة من الأصول الثقافية، ذات
المفعول السريع حيث يتقبّلها الفرد ويخضع
لما تقوله.
2- اللجوء إلى ضمير الفرد، على اعتبار أنّ في
داخل الشخص صوتاً يمنعه من اقتراف الشرّ أو ارتكاب الخطأ..
إنّ تعلّم القيم واكتسابها مسؤوليّة جماعية،
من الفرد إلى الأسرة فالمجتمع، ويتمّ بالعمل والتربية الشمولية، ويرتبط تشرّبها
بالنموّ العاطفي الوجداني. والأسرة هي الأقدر على غرس القيم، وذلك بإعطاء السلوك الأخلاقي الجيّد للطفل عن
طريق القدوة بقناعة وحبّ وليس برهبة وإكراه، فيكون الطفل شاهداً ومشاركاً ومقوّماً
لهذا السلوك أو ذاك.. وكلّما تقدّم الطفل في مراحله العمرية تنمو عنده القيم
وتتبلور أحكامها الخلُقية والاجتماعية.
رابعاً- دور الأسرة في غرس القيم :
إذا كانت الأسرة هي الوحدة الاجتماعية
الأولى التي تشكّل نظاماً خاصّاً في المجتمع البشري يتداخل مع الأنظمة الأخرى،
فإنّ دورها التربوي عبر الأجيال، يتطلّب أن تتعامل مع أهمّ القيم الإيجابية، ليس عن طريق الألفاظ
فحسب، بل بروح إنسانية / اجتماعية تترجم من خلال العمل الفعلي على أرض الواقع، على
اعتبار أنّ القيم السائدة في المجتمع تشكّل أحد الأهداف الأساسيّة في تكوين السمات
العامة لشخصية الإنسان / الفرد وفق ما يرغبه المجتمع، بغية تحاشي حدوث
الصرا عات في النظام القيمي، بين جيل الآباء وجيل الأبناء، ومنع تحوّل
الصراع بالتالي إلى مشكلة اجتماعية تعكّر
أجواء الأسرة، وتعوّق مهامها التربوية.
فالأسرة هي الحاضنة الأولى والأساسيّة، التي يبدأ الفرد فيها بتكوين قيمه واتجاهاته، وسلوكاته بوجه عام.. وذلك لأنّ الأسرة هي التي تحدّد لأبنائها ما يجب -وما لا يجب – أن يكون، في ظلّ المعايير الاجتماعية / الحضارية السائدة.
ولكي تؤدي الأسرة دورها الفعال عليها أن تعمل
على:
1- تهيئة الظروف المناسبة التي تساعد في ممارسة
أوجه السلوك المرغوب فيها، في جوّ من المحبّة والعطف والحنان، وتعزيز الممارسات
الإيجابية حتى تتحوّل إلى عادات لدى الأبناء. مع التأكيد على أنّ العادة لا تتكوّن
إلا بطريقة الممارسة المستمرّة والقدوة الحسنة والمحاكاة والتقليد الجيّد.
2- العزوف
عن أساليب العقاب البدني، لأنّ هذه الأساليب تعوّد الأطفال على الخنوع
والذلّ والهوان، والحقد والمداهنة والنفاق والرياء... كما أنهّا تشوّه بناء
الشخصية المتوازن المتكامل. ولا بدّ من توفير أجواء المودّة والاحترام والعطف بغية
انعكاسها في سلوك الأطفال.
3- إتاحة الفرصة أمام الأطفال لأن يعملوا على
حلّ مشكلاتهم بأنفسهم، حتى لا يتعودّوا الاتكالية والسلبية، والاعتماد على الأهل
في كلّ صغيرة وكبيرة.
4- غرس قيم الديمقراطية ومبادئها في نفوس
الأبناء، ومساعدتهم على ممارسة السلوك الديمقراطي. وهذا يتأتّى بالعدل في المعاملة
بين الأطفال وتحقيق المساواة، واستبعاد التمييز من حيث السن والجنس.
5- مراعاة التدرّج في تحميل الأبناء
المسؤوليات، ومراعاة إمكانياتهم العقلية واستعداداتهم وعوامل النضج لديهم، ومراحل
نموّهم. ولا بدّ من مساعدة الأطفال في فهم معاني الألفاظ في مجال القيم الأخلاقية
بطريقة هادئة وموضوعيّة. فنحن نؤثّر في أطفالنا
بأفعالنا وسلوكنا أكثر بكثير مما نؤثّر فيهم بأقوالنا، لأنّ الأطفال
ميّالون إلى التقليد.
6- إشاعة الجوّ الثقافي في البيئة الأسرة، لأنّ
الأطفال يكتسبون من الأسرة الكثير من القيم والاتجاهات.
7
-استبعاد النظرة إلى توزيع الاختصاصات
بين الجنسين في البيت،لأنّ هذا يؤدّي إلى تعزيز التباين والفصل بينهما في الحياة
الأسرية وفي المجتمع. وليس ثمة ما يعزّز روح التعاطف في التفكير وفي الاتجاهات،
وبثّ الاحترام المتبادل كالعمل المشترك.
إنّ طبيعة التفاعلات ضمن الأسرة من العوامل
المؤثّرة في إكساب الأبناء قيماً بعينها،
كما أنّ مركز الأسرة وحجمها الاجتماعي والاقتصادي يؤثّر بالدرجة ذاتها.
فالطفل من خلال أسرته يخطو خطواته الأولى نحو تكوين قيمه، وإدراك أنظمة الصواب
والخطأ والخير والشر والأفضل والأسوأ.... وبذلك تتعزّز لديه القيم الإيجابية،
ويبتعد عن القيم السلبية.
سبحان الله والحمدالله والاالله والاالله والله اكبر والاحول والاقوة الابالله
ردحذف